مقالات مختارة

تداعيات قضية الجزيرة

1300x600
كتب عبد الله السناوي: الأزمة هذه المرة تختلف في موضوعها وتداعياتها عن أية أزمة أخرى تلت (30) يونيو.

فى الموضوع فإن عنوانها الذى يقرأه العالم ويصعب أن يقرأ عنوانا غيره هو «حرية الإعلام».

 للعنوان حساسيته المفرطة فى «الميديا الدولية»، فالتضامن طبيعى وتقليدى مع زملاء المهنة الذين يتعرضون لظروف مماثلة كالتى تعرض لها صحفيو «الجزيرة الدولية».. وللعنوان سطوته البالغة على المنظمات الحقوقية والصحفية الدولية ومراكز صناعة القرار فى العالم الغربى، فلا أحد بوسعه غض الطرف عن الأحكام المشددة التى صدرت بحقهم.

الحديث عن «مؤامرة» استخفاف بالحقائق الأساسية فى العالم ونظرة ضيقة إلى التداعيات الخطيرة على سمعة القضاء المصرى دوليا، وهذه خسارة فادحة لأعرق مؤسسة قضائية فى العالم العربى ونظرة ضيقة أخرى للتداعيات الدبلوماسية على بلد يتطلع للخروج من أزمته المستحكمة فيجد نفسه تحت ضغوط أوروبية جديدة.

نحن جزء من العالم ومصيرنا مرتبط به وأى كلام آخر فهو لا يستحق الالتفات إليه.

عندما يعتبر الأمين العام للأمم المتحدة «بان كى مون» أن الأحكام «لا تحترم المعايير الأساسية لمحاكمة عادلة» فهذه مسألة لا تصلح لمواجهة آثارها كلمات الاستهجان.

عبارته تبدو دبلوماسية ومنضبطة بالقياس على ما قالته مفوضة حقوق الإنسان فى الأمم المتحدة «نافى بيلاى» فى وصف الأحكام نفسها من أنها «مهزلة مطلقة للعدالة».

على هذا المنوال تبارت المنظمات الحقوقية والصحفية الدولية فى الإدانة ودخلت «الميديا الغربية» حملة جديدة أكثر تماسكا من أية حملات سبقتها منذ (30) يونيو ضد النظام الجديد.

لهذه التداعيات كلها وقد كانت متوقعة فإن الحكم القضائى لا يمكن أن يكون مسيسا.

التسييس يعنى أن هناك مصلحة ما فى تشديد الأحكام، وهذا غير متوافر بالمرة فى هذه القضية وفى قضايا أخرى مماثلة.

بحسب تصريحات متواترة لدبلوماسيين مصريين بينهم وزير الخارجية السابق «نبيل فهمى» فإن مثل هذه الأحكام تستغرق أغلب مباحثاتهم مع نظرائهم الغربيين وتعرقل مهامهم الأصلية.

وهذه أقوى حجة فى دحض أن تكون للسلطة التنفيذية أية أدوار فى تشديد الأحكام واختيار توقيتها.
قبل انتخاب رئيس الجمهورية الجديد زار ثلاثة رجال الولايات المتحدة فى وقت متقارب هم رئيس المخابرات العامة ووزير الخارجية ومستشار الرئيس المؤقت للشئون السياسية لبحث فرص تخفيض مستويات التوتر فداهمتهم أثناء مهمتهم الصعبة أحكام «إعدامات المنيا» التى وصفها رسميون مصريون بـ«نيران صديقة».

أربكت المهام واستنزفت الأعصاب بصورة دعت الوزير السابق «نبيل فهمى» إلى أن يقول إن ثلث اجتماعيه مع نظيره الأمريكى «جون كيرى» ومستشارة الأمن القومى «سوزان رايس» استهلكه الحديث عن الأحكام القضائية المثيرة.

ذلك لا يمكن أن يكون مخططا من دولة تتلمس بالكاد فرصها فى استعادة شىء من أوضاعها الطبيعية.
وفق المعلومات المتاحة فإنه وقت الإعلان عن قضية صحفيى «الجزيرة» المعروفة إعلاميا بـ«خلية الماريوت» لم يكن الرئيس المؤقت المستشار «عدلى منصور» مقتنعا بتصعيدها قضائيا ولا وزير الداخلية اللواء «محمد إبراهيم» متحمسا لهذا الخيار.

الرجلان وفق شهادات موثوقة سجلا تحفظهما غير أنهما مالا للصمت خشية اتهامهما بالتدخل فى أعمال القضاء.

وبصورة ما كان الخيار السياسى الأفضل ترحيل المراسلين الأجانب لا الوقوع فى شرك المحاكمات القضائية.

ولم تكن هناك مفاجأة فى حدة ردة الفعل على الأحكام فالعالم يرقب القضية ويتابع وقائعها وعند إعلانها تواجد فى قاعة المحكمة سفراء بريطانيا وهولندا واستراليا وكندا وحشد من الدبلوماسيين والحقوقيين تحت وهج كاميرات الفضائيات العالمية.

فى ردة الفعل العاصفة مواضع خطرة.

أولها، تقويض سمعة القضاء المصرى فى المحافل الدولية. فقد أصبح من المعتاد الاستخفاف بما يصدر عنه من أحكام وبعضها يستدعى تدخلا حاسما من المجلس الأعلى للقضاء لوضع القواعد الضرورية التى تضمن للأحكام احترامها وألا تكون عنوانا للتشهير بالقضاء المصرى كله.

هناك فارق بين أن تؤكد بياناتك الرسمية استقلال جهازك القضائى وبين أن يتعامل العالم مع ما تقول إنه قابل للتصديق، والكلام كله حساس وموجع ويحتاج إلى مقاربات مختلفة.

وثانيها، تعقيد مهمة الدبلوماسية المصرية التى داهمتها الأحكام ورود الأفعال عليها بين التنديد المتواتر بصياغات مختلفة وصلت أعلى درجات حدتها على لسان «كيرى» الذى وصفها بـ«القاسية والوحشية» وبين استدعاء السفيرين المصريين فى بريطانيا وهولندا ودعوة الأخيرة الاتحاد الأوروبى للنظر فى الأزمة واتخاذ موقف موحد بشأنها، وهذا تطور سلبى فى لحظة رهان على دور أوروبى فى مؤتمر أصدقاء مصر لإنقاذ اقتصادها.

وهو بدوره يحتاج إلى رؤية أوسع من التبرير وكلام آخر غير الدفاع المعتاد.

لابد أن نعترف أن هناك خللا فادحا فى الأداء العام يحتاج إلى تصويب وإذا أردت أن تكون مقنعا فلابد أن يكون كلامك نفسه مقنعا.

وثالثها، الخلط بين محطة «الجزيرة» وقضية صحفييها فى القاهرة.

المحطة متورطة فى أعمال أقل ما توصف به أنها عدوانية وطرف مباشر فى الصراع الدائر حول المستقبل المصرى.

افتقدت موضوعيتها ومهنيتها وبدت منشورا تحريضيا على النظام الجديد عبر «مباشر مصر». خسرت جمهورها عندما خسرت صدقيتها ولم تعد تتمتع بالنفوذ الطاغى الذى راكمته على مدى سنوات طويلة منذ تأسيسها عام (1996) بما وفرته من حرية غير مسبوقة فى تداول المعلومات والآراء ومستوى متقدم بالمعايير الدولية فى التغطيات الخبرية لمواقع الحروب والاضطرابات.

فى مرحلتها الأولى حتى احتلال بغداد عام (2003) وفر مديرها الأول «محمد جاسم العلى»، وهو قطرى عروبى أميل إلى حزب البعث، انفتاحا كبيرا على التيارات القومية والليبرالية والإسلامية بشىء من التوازن مكن المحطة من أن تصبح فى وقت قياسى منبر من لا منبر له وصوت المعارضات العربية غير أنه بإزاحته وصعود «وضاح خنفر» الإسلامى الأقرب إلى حماس بين عامى (2004 - 2011) افتقدت المحطة توازنها وتمددت كوادر محسوبة على جماعة الإخوان فى مفاصل بنيتيها التنظيمية والتحريرية، ورغم ذلك لم تفقد نفوذها الواسع ومكنتها تغطيتها للحربين الإسرائيليتين على لبنان وغزة من اكتساب أرضية جديدة.

فى تلك السنوات كان من المعتاد أن ترى فى الفنادق والمقاهى والمحافل العامة القاهرة شاشات التليفزيون منضبطة على مؤشر «الجزيرة» قبل أن تزيحها (30) يونيو عن عرشها الذى تربعت فوقه عن استحقاق وخسرته عن استحقاق.

أوغلت المحطة فيما يتجاوز أى دور مهنى، وهذا حقيقى وثابت بالصوت والصورة، غير أن اعتبار أن كل من يعمل بها متورط بالضرورة فى مؤامرة ما فإنه يفضى إلى كوارث سياسية كالتى نعانيها الآن.

إذا أردت أن تلعن «الجزيرة» فهذا عليه ألف برهان موثق بالصوت والصورة غير أن قضية صحفييها شىء آخر يتعلق بقيمة العدالة الإنسانية وحرية الصحافة معا.

بعض الاتهامات تدخل فى طبيعة المهنة مثل أعمال المونتاج، ولا يوجد تقرير تليفزيونى فى أى مكان ولا فى أى وقت لم يتعرض لمونتاج، وهناك فارق جوهرى بين جريمة التزييف وحق الاختيار والأخير يملكه الصحفى وحده.

وبحسب قانونيين فإن الحكم سوف ينقض وتعاد المحاكمة من جديد غير أن التداعيات السياسية أحدثت أضرارا تحتاج إلى وقت أطول لترميمها وبعض الكلام هنا يسىء إلى مصر ومصالحها وصورة نظامها الجديد بأكثر مما يتوقع أحد.

(بوابة الشروق المصرية)