قضايا وآراء

عندما ينقلب التلميذ على معلمه !‎

1300x600
لا يوجد في جعبة  المتحدثين الرسميين وغير الرسميين باسم السلطة الجزائرية عند الحديث عن استحقاقات القضية الفلسطينية والدور المنوط بالحكومة القيام به، سوى  حالة الالتزام المالي تلك، حالة تستمد بريقها من تقاعس الآخرين عن الإيفاء بتعهداتهم المالية لمنظمة التحرير الفلسطينية، أو بالأحرى لسلطة أوسلو، فيصورون لك وكأن الحكومة تخوض البحار وتركب الأهوال، وكأن تلك الأموال تجهز جيوش فتح القدس.

ولا أدري إن كان هؤلاء يدرون أولا يدرون،  أن ملايين الدولارات التي تصبها حكومتنا " العتيدة" في حساب سلطة رام الله إنما هي تصرف على أجهزة التنسيق الأمني التي تسهر على توفير الأمن لبني صهيون، والتي استطاعت باقتدار أن تبسط خلال العشر سنوات الأخيرة أمنا، كثيرا ما تباهى به القادة الصهاينة وأشادوا به، وكيف لا وقد كفاهم شرطي السلطة ذو العقيدة الدايتونية ما عجزوا عن تحقيقه خلال الانتفاضة الثانية.

لانعني بهذا الكلام التقليل من أهمية الدعم اللوجستي عموما والمالي خصوصا لإخواننا الفلسطينيين، ولكننا نريده في مكانه وعبر الساقية الصحيحة.

نريده للمقاومة الباسلة في غزة، المقاومة التي  هزمت عسكريا الجيش الذي أُعتقد أنه لايُهزم، جيش قيل أنه مصنف من أقوى جيوش العالم.

نريده لأسر الأسرى والشهداء والصامدين في غزة، فهم الحاضن والراعي للمقاومة ولولاهم ما صمدت المقاومة جولة.

نريده لصندوق دعم القدس الذي أنشئ من عديد الدول العربية والإسلامية بغلاف مالي قدره ملياريْ دولار لم يُدفع منه غير ربع المبلغ من قبل دولة قطر.

فالأموال التي نحسبها في خدمة القضية الفلسطينية ودعمها ولانزكيها ونمن بها، هي تلك التي تجود بها جيوب الشعب الجزائري لحماية المقاومة وليس لحماية الصهاينة.

 
إن الذين يكتفون بدور الجزائر هذا نحو قضية العرب والمسلمين الأولى، إنما هم يحطون من قيمتها ومكانتها ويهينونها أيما إهانة، فالجزائر الثورة والتاريخ هي أسمى من أن يُحصر دورها في التبرع بالمال و لو كان في الموضع الصحيح، فعندما يرتبط اسم الجزائر حكومة وشعبا بالنهج" مع فلسطين ظالمة أو مظلومة" فإن  ذلك يعني أدوارا رائدة ومؤثرة تجاه القضية الفلسطينية وفي مقدمتها الدور السياسي الذي تُعرّف  به هوية الدبلوماسية الجزائرية.

لقد كان للجزائر بعد الاستقلال دورا محوريا في دعم القضايا العربية  عامة و القضية الفلسطينية خاصة، وكذا عديد  قضايا التحرر ابتداء من دعم المؤتمر الوطني الإفريقي واحتضان زعيمه نيلسون مانديلا، مرورا بقضيتيْ تيمور الشرقية والصحراء الغربية مثالا لاحصرا ـ اتفقنا او اختلفنا مع ذلك ـ، فالشاهد هنا أن الوضع الطبيعي للجزائر الرسمية هو الانحياز إلى المناضلين من أجل الحرية،  وفاء لتاريخها و تأكيدا لنضالها، وهي لم تنل تلك المكانة بين الأمم إلا من خلال هذا الاصطفاف، فكان لها الصوت المحترم والمسموع في المحافل الدولية.

و أما إذا استعرضنا الدور السياسي للجزائر تجاه القضية الفلسطينية فيكفي  أن نستحضر أن وثيقة الاستقلال وإعلان الدولة الفلسطينية كان من الجزائر في نوفمبر1988 خلال  الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني.

ولا زالت الجزائر الرسمية بو مديينية مع فلسطين ظالمة ومظلومة، حتى حل التلميذ بوتفليقة لينسخ مقولة  معلمه بمقولة" لسنا ملكيين أكثر من الملك" أو" لسنا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين"، هذه العبارة إضافة إلى قوله "لم تجد الجزائر الظهير والنصير من الأشقاء والحلفاء خلال أزمتها،  لذلك فإنه من الآن وصاعدا مصلحة الجزائر أولا وأخيرا"، هذان العبارتان لخصتا الفلسفة  الدبلوماسية التي قرر بوتفليقة انتهاجها في بداية حكمه، وأن استعادة مكانة الجزائر إقليميا ودوليا لن يكون بتقديم الضرائب لصالح الآخرين ولو كانوا أشقاء عرب، فالبعد الوطني سيكون المحدد الأول لتوجهات السياسة الخارجية ولن يكون البعد العربي إلا تاليا.

وإن كنا نتفهم الحاجة إلى أولوية ترتيب البيت الداخلي وتقويته وإخراج البلاد من غرفة الانعاش في تلك الفترة، إلا اننا لا نتفهم دواعي التعامل مع  القضية الفلسطينية كما باقي العرب الذين صدوا عنا صدودا، بل ومساهمة بعضهم في تصدير فتاوى شيوخهم لاذكاء نار الفتنة في البلاد، إذ  وإن كان العتب على الشقيق العربي  في عدم مؤازرتنا ومواساتنا فإن تحميل الفلسطينيين ذات الذنب فيه من الظلم مافيه، لأن أزمتهم أقدم وأعمق وليس لهم ما يقدموه للجزائر في أزمتها.

ومع هذا، ولو سلمنا بهذه الشوفينية الكاذبة، فإن النظام الجزائري لم يلتزم بمحددات بوتفليقة الجديدة، فراح يدعم أنظمة استبداد وفساد ويصطف معها،  وهي التي ساهم بعضها في فتنة الجزائر بطريقة أو بأخرى كنظام القذافي و النظام السعودي، حتى خلُصنا  إلى استقبال السفاحين والمجرمين وتلميع صورهم في المنظمات الدولية كما كان مع المجرم السيسي وإعادة نظامه الانقلابي إلى منظمة الوحدة الإفريقية كممثل لدولة مصر، والامتناع عن الاستقبال الرسمي لقادة حركات التحرر كما  جرى مع  رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل، وحتى خلُصنا أيضا إلى المنع والتضييق على المظاهرات المتعاطفة والداعمة للقضية الفلسطينية بأسباب مُتوهمة وهواجس مبالغ فيها.
 
إذا كان وضع القدس هو المؤشر عن حال الأمة،  فإن  مدى دعم الجزائر للقضية الفلسطينية هو مؤشر حال السياسة الخارجية الجزائرية خصوصا، ولا نبالغ إن قلنا  مؤشر حال الدولة عموما، وبناء عليه، فإن عملية الانقلاب التي قادها التلميذ بوتفليقه على معلمه الرئيس بودين في سياسة الجزائر تجاه القضية الفلسطينية  والانتقال من " مع الجزائر ظالمة او مظلومة" إلى " لسنا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين" هي هدم  لركن من أركان الدولة،  لأن دعم القضية الفلسطينية في وعي الشعب الجزائري وعرفه مظهر من مظاهر السيادة، والتنكر لاستحقاقاتها شكل من أشكال التفريط فيها، وهي بذلك أزمة أخرى لاتقل معضلتها خطورة عن عديد الأزمات الأخرى التي تمر بها البلاد، ما يضاعف المسؤولية على عاتق دعاة التغيير والإصلاح في الجزائر.