كتاب عربي 21

هل تختفي خلافة البغدادي بالأكاذيب

1300x600
عندما دخلت سوريا آفاق الحراك الثوري منتصف آذار/ مارس 2011، كان الفرع العراقي لتنظيم القاعدة يشهد تراجعا واضحا، ويعاني حالة من العزلة والضعف والضمور، ويفتقد إلى الجاذبية الإيديولوجية الضرورية للحشد والتعبئة والتجنيد، وبفتقد إلى الموارد البشرية والمالية اللازمة للصمود، ويفتقر إلى الحاضنة الاجتماعية الأساسية للازدهار والنمو، ولا يتوافر على عمق جغرافي استراتيجي لاسناد حروب الاستنزاف، ومع دخول العالم العربي حقبة الثورات السلمية وحلول "الربيع"، تلقى التنظيم هدايا لا تحصى من قوى "الثورة المضادة"، التي عملت بإخلاص ومثابرة على تحويل مسارات التغيير والثورة إلى "خريف" طويل.

استندت استراتيجية الثورات المضادة إلى ركنين أساسيين؛ الأول: يقوم على أسس سياسية تعتمد على مبدأ "الحرب على الإرهاب"، والثاني: يقوم على أسس هوياتية تعتمد على مبدأ "تفعيل الطائفية"، وبهذا أصبحت سوريا مركزا أساسيا للصراع، حيث وضعت كافة الأطراف ثقلها في معركة النفوذ الإقليمي، الأمر الذي باتت فيه "الطائفية" ركنا رئيسيا في حلبة الصراع، لكنها ليست المحدد الوحيد في تفهم طبائع الصراع وتعزيز الانقسام بين "السنة والشيعة"، فالتلاعب الهوياتي الطائفي استخدم كاستراتيجية لتعزيز النفوذ الإقليمي في إطار لعبة توازن القوى، إلا أن سياسات التلاعب الهوياتي خرجت عن حدود السيطرة نسبيا.

وفي الوقت الذي انشغلت فيه قوى محلية وإقليمية ودولية ببناء تحالفات مشوهة لعرقلة مسار الثورات المطالبة بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية في العالم العربي لإعادة إنتاج وبناء السلطوية عبر آليات الثورة المضادة من خلال تدبير الانقلابات وعسكرة الثورت وتهجين الخيارات، كان الفرع العراقي يقرأ المشهد ويستثمر الصراع  لإعادة بناء التنظيم وتثبيت أركان الدولة، ويتمدد ببطء في سوريا التي لم تكن للقاعدة فيها موطئ قدم. 

في خضم الجدل وتبادل الاتهامات وتحمل المسؤوليات حول رعاة وداعمي "الإرهاب" و"الطائفية"، كانت القاعدة تتمدد باطراد مستمر، وتصبح لاعبا أساسيا في المشهد الإقليمي، وتمنكنت من الإعلان عن ولادة "الدولة الإسلامية في العراق والشام" في 9 نيسان/ أبريل 2013 بعد أن اتخذ نجم القاعدة الصاعد في العراق أبو بكر البغدادي قرارا بضم "جبهة النصرة" في سورية إلى دولته، عبر التحول من استراتيجية "النكاية" إلى شوكة "التمكين" من خلال فرض السيطرة المكانية استنادا  لتنظيم  أمني مركزي وجيش هجين تقليدي حداثي مركب عبر سياسات  إدارة التوحش، وفي 10يونيو/ حزيران، 2014، سيطر التنظيم على مدينة الموصل، وفي 29 حزيران/ يونيو 2014 أعلن التنظيم عن قيام دولة "الخلافة"، وتنصيب أبو بكر البغدادي إيراهيم عواد البدري خليفة للمسلمين.

 ساهمت كافة الأطراف بطرائق مختلفة على تنامي الجهادية العالمية في المنطقة، وبات الكذب سلاحا أساسيا في مواجهة ظاهرة "داعش"، إلا أن الأخيرة لا تحفل بالأكاذيب، فهي لا تخفي نهجها الأكثر عنفا في تاريخ الحركات الراديكالية، وتفتخر بنشر تكتيكاتها المرعبة على شبكة الانترنت من خلال جهاز إعلامي محترف، وجيش الكتروني ممتد، فمشاهد التفنن بالقتل ومشهديته المرعبة أحد التكتيكات المقصودة في دعاية التنظيم من سلسة "صليل الصوارم"، وصولا إلى "على منهاج النبوة"، فالعمليات الانتحارية والانغماسية، والمفخخات والعبوات اللاصقة والطائرة، وجز الرؤوس ونحر الرقاب، والاقتحامات واستخدام الكواتم وحفر القبور، تكتيكات أساسية اشتهر بها الفرع العراقي للقاعدة، وينفرد مؤسس التنظيم أبو مصعب الزرقاوي بلقب "أمير الذباحين" في عالم الجهادية العالمية دون منافس، في سياق المدح والثناء والتقدير.

النزعة العدوانية الفائقة للفرع العراقي نجد مصداقها في تحليلات جاك لاكان مع تحقق وجود ضغط قصدي، إذ تبدو الفاعلية الخاصة لتلك النية العدوانية واضحة  من خلال الممارسة الأصلية التي يقوم بها فرد ما إزاء الأشخاص الخاضعين له: فالعدوانية المقصودةِ تقرض، وتهدم، وتفكك؛ أنها تخصي وتؤدي إلى الموت، إنها تواجه الآخر الذي يقول: "وأنا الذي ظننت بأنك عاجز"، ومما لا شك فيه تجري ممارسة عدوانية كهذه تحت ضغوطات واقعية، لكننا نعرف بالتجربة بأن فاعليتها ليست أقل شأناً في المجال التعبيري، من بين هذه الأخيرة هناك ما يمثل التوجهات الانتقائية للنوايا العدوانية، وتزودها بنشاط يمكن للمرء القول عنه بأنه سحري،  إنها صور "الإخصاء"،  كالقطع، والبتر، ونزع الأعضاء، وتفكيك الجسد، وبقر البطن، والافتراس، وانفجار الجسد، وباختصار، الجسد المُقَطَّعِ.
لكن ينبغي أن ندرك أن الكذب لا يساهم في اختفاء خلافة البغدادي، فقد بات الجميع مدركا أن السياسة تاريخيا هي البيئة المثالية لانبثاق الكذب بأصنافه المختلفة، لكن ألكسندر كويري يلاحظ بأننا "لم نكذب قط بالقدر الذي نكذبه اليوم، كما أننا لم نكذب بهذا النحو السفيه والنسقي والراسخ كما نكذب اليوم"، وهي ذات الملاحظة التي توصلت إليها حنة أرندت، فقد انتهت إلى تقسيم تاريخ الكذب إلى مرحلتين كبيرتين، المرحلة الكلاسيكية والمرحلة المعاصرة، التي أصبح فيها الكذب كليانيا عولميا بفضل تقنيات الصورة والتواصل والإشهار والدعاية المعاصرة. وقد أصبح الكذب السياسي في الفلسفة السياسية المعاصرة، جزءا بنيويا من العمل السياسي.

في سياق الكذب السياسي ظهرت خلافة البغدادي كإمبراطورية كبرى لا حدود لها، فهي تتمتع بقدرة فائقة على نسج علاقات مع كافة أقطار الأرض ويمتد نفوذها إلى سائر العوالم الممكنة، وتقع في إطار مؤامرة كونية عظمى، فالمالكي اتهم السعودية في 8/3/ 2013 بدعم نشاطات تنظيم القاعدة، وتنظيم دولة العراق والشام الإسلامية، وهو  ذات الشخص الذي شكر قبل أسبوعين فقط من تصريحه القرارات التي أصدرتها السعودية بتجريم الانتماء للأحزاب والمنظمات الإرهابية، وفي مقدمتها "داعش".

وكان سلمان الموسوي، النائب عن ائتلاف دولة القانون بالعراق والذي يتزعمه المالكي، قد أكد في 20/1/ 2014 على أن بلاده تملك أدلة ووثائق تثبت تورط الحكومة السعودية في دعم الإرهاب وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، أو ما يعرف بـ"داعش"، أما نائب رئيس لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي اسكندر وتوت فقد أعلن في 11/5/ 2014 بأن  قوات الجيش العراقي حصلت على أسلحة من تنظيم "داعش" من صنع إسرائيلي.

اذا كانت اللغة مسكن الوجود بحسب هيدجر، فإن الكذب موطن الخيال عند حنة أرندت، ويبدو أن الخيال كان خلاقا في معرفة هوية الخليفة البغداي، فقد ذكرت وسائل إعلامية إيرانية  أنها تمكنت من الكشف عن هوية وحقيقة خليفة المسلمين "أبو بكر البغدادي"، زعيم "داعش"، وبحسب الأكذوبة فإن  صحيفة "أقسام" التركية نقلت عن الصحافة الإيرانية: إن "البغدادي" عميل بجهاز الإستخبارات الإسرائيلية (الموساد)، زاعمة أن اسمه الحقيقي "شمعون إيلوت"،وأوضحت إيران أن خطة "البغدادي" هي اختراق التحصينات العسكريّة والأمنيّة للدول الّتي تشكل تهديدا لأمن إسرائيل وتدميرها لاجتياحها لاحقًا بغية التوسّع وتأسيس إسرائيل الكبرى، وأضافت أن "البغدادي" الحقيقي" لقي مصرعه في العراق عام 2006، مستندة على أدلة قدمها العميل الأمريكي السابق "إدوارد سنودن"، بالطبع رافق الخبر صورة فضائحية للبغدادي مع صديقته اليهودية.

عقب العدوان الإرهابي الصهيوني على غزة، انتشرت عبر وسائل إعلام مختلفة تنتمي إلى خط الممانعة والاعتدال معا، أن تنظيم داعش أصدر بيانا وفتوى تقول: إن الله في القرآن الكريم لم يأمرنا بقتال إسرائيل أو اليهود حتى نقاتل المرتدين والمنافقين، وبحسب اسكندر توت السابق الذكر فإن "تنظم "داعش" هو صهيوني هدفه إضعاف العراق والدول العربية الإقليمية وتدمير "الإسلام".

بحسب الأكاذيب السياسية الرائجة في صفوف خندق "المقاومة والممانعة"، فإن الولايات المتحدة كانت خلف تأسيس "داعش" كجزء من سياسة "الفوضى الخلاقة" لتفتيت العالم العربي، بل إنها ادعت أن وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون قد اعترفت في مذكراتها التي نشرت مؤخرا، أن أمريكا هي من أسست تنظيم داعش.

لكن امبراطورية "داعش" لا حدود لها وهي صنيعة الدولة التركية، ففي 7/7/2014 رأى رضا ألتون، القيادي في "حزب العمال الكردستاني"، أن تركيا كانت على علم بغزوة "داعش" للعراق، وأن كل شيء تم ترتيبه في اجتماع عمّان، وأن علاقات تركيا مع داعش قائمة بصورة قاطعة، بل إن شخصية تركية معروفة ادعت أن أبو بكر البغدادي تلقى مبلغا ماليا يقدر بنحو 150 ألف دولار من تركيا، موضحا أن البغدادي تواجد في تركيا لفترة بشكل قانوني بصفة صحفي في عام 2008.

علاقات "داعش" في عالم المخيلة الجامحة، كانت وطيدة مع كردستان، ففي 9/7/ 2014 قال رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي اإن أربيل، عاصمة إقليم كردستان، أصبحت "مقرا لمسلحي داعش والقاعدة والبعث والإرهابيين".

لا يمكن أن ننسى الدعايات اليومية، والتصريحات المتتالية من جانب ما يسمى "أصدقاء سوريا" و"دول الاعتدال العربي"، بأن "داعش" صنيعة أجهزة مخابرات إيران وسوريا، وهي التهمة التي لا يمل من تردادها إعضاء "الإتلاف الوطني السوري"، ومعظم قوى الثورة السورية المختلفة.

السفير السوري السابق لدى الأردن بهجت سليمان، أدلى بدلوه في سوق الكذب، فقد صرح في 27/7/ 2014،  بأن "داعش" تأسست في الأردن، عام 2006 بعد مقتل أبو مصعب الزرقاوي وأضاف بأن الإدارة الأمريكية قامت بتوجيه الأوامر لقوات المارينز لكي تقيم معسكرات على الأراضي الأردنية، أنشأت فيها "داعش".

في مصر السيسي كان يجب أن يعلم الجميع أن "داعش" هي أحد فروع جماعة الإخوان "الإرهابية، "ففى البحيرة، تم القبض على موظف بالتموين، من المنتمين لجماعة الإخوان، مطلوب ضبطه وإحضاره بتهمة التحريض على العنف والتظاهر، وعثر بحوزته أوراق أخرى توضح علاقة الإخوان بـ"داعش".

لقد أصبح تنظيم "داعش" أشد خطرا وأكثر رعبا من وحش فرانكشتاين في وسائل الإعلام، وهذه عينة متواضعة من الترهات والأكاذيب الشائعة حول "داعش"، فقد التنظيم سكان الموصل مُهلة طيلة عطلة عيد الفطر لتقديم كل فتيات المدينة لـ"جهاد نكاح" جماعي، واخُتطفت عشرات النساء في الموصل على أيدي مسلحي "داعش" تطبيقًا لـواجب "جهاد النكاح"، ولا توجد حتى الآن إحصائية بعدد النساء اللواتي تعرضن للاغتصاب على يد عناصر "داعش" مُنذ سيطرتهم على الموصل.

ومن جملة الأكاذيب أن "داعش" أصدرت فتوى توجب على كافة النساء "الختان"، وبحسب الدعاية تفيد التقارير أن النساء اللواتي تتراوح أعمارهن بين 11 و46 عاما مستهدفات، من قبل الدولة الإسلامية، أي ما يمثل 4 ملايين امرأة تقريبا، حيث تطبق فتوى الختان على مدينة الموصل وضواحيها حاليا، كما قام التنظيم بإنشاء سوق للرقيق وبدء عرض نساء الطوائف للبيع بأسواق مدينة نينوى كـسبايا.

أحد الأكاذيب بلغت حدا يصعب تصديقه، ويفد أن تنظيم "داعش" أعلن بأن القرآن الكريم طاله بعض التحريف، وتوعد التنظيم الذي فرض سيطرته على مناطق واسعة في العراق وسوريا، بحذف سورة الكافرون، وعلى ذمة أحد القنوات الفضائية، فإن تنظيم داعش في الموصل اتخذ بالفعل قرارا بإعادة كتابة القرآن الكريم، وكما قرر حذف بعض الآيات، زاعما أنها محرفة وغير صحيحة
أيها السادة؛ لا يمكن أن يتحول الكذب إلى حقيقة، اللهم إلا إذا أخذنا بنصيحة غوبلز، أشهر وزراء هتلر، وأحد رموز الكذب السياسي في القرن العشرين، والتي تقول: يكفي أن تكرر نفس الأكذوبة مرارا عديدة وعلى نحو متواطئ لتتحول إلى حقيقة!، هل نسينا أحد أكبر الأكاذيب الأمريكية المعاصرة، أم أصابتنا "المليخوليا" بحسب تصنيف بقراط، أم هو اعتلال خطير في الذاكرة بحسب التصنيفات الطبية المعاصرة، ألم تعمد الولايات المتحدة عبر آلتها الإعلامية الهائلة وخبرائها المزعومين إلى  تثبّيت وجود أسلحة دمار شامل في العراق في أذهان الجميع، كي تبرر "قانونيا" و"أخلاقيا" قرار شن حرب كانت مُعدَّة سلفاً ، هل تركنا فضيلة الصدق في عالم الأديان،  وأخلاقيتها المعيارية مع حداثة إمانويل كانت، أم اصبحنا من ضحايا نيتشة وفلسفة الكذب النبيل الما بعد حداثية.

خلاصة الأمر أن خلافة البغدادي لا يمكن أن تختفي بالكذب، فتنظيم الدولة الإسلامية هو نتاج سياسة الحرب على الإرهاب الأمريكية البائسة، التي تم تعميمها على سائر أطراف الكون وتلقفتها الأنظمة السلطوية الرثة للتخلص من المطالب الشعبية العادلة، وتقييد الحريات، وإفقار البشر، كما هي نتاج الردة الطائفية لقوى الثورة المضادة، التي ذهبت بعيدا في تفتييت المجتمعات تحت ذريعة أوهام الهوية، للتهرب من الديمقراطية والتحايل على شرعيتها المفقودة، وكما لاحظ كانط وتابعه في ذلك كويري، فإن الكذب ينطوي على احتقار مثلّث: للحقيقة وللجمهور وللكاذب نفسه.

لقد أصاب الأستاذ العزيز محمد المصباحي كبد الحقيقة بقوله؛ إن: استعمال الكذب بشكل منهجي بالنسبة لشعب معين يؤدي لا محالة إلى إنهاكه، وإرهاق قدرته على الصبر، وفقدان مناعته إزاء الحقيقة والصدق، مما يغرقه في جو من اليأس، هذا الجو الذي هو البيئة المباشرة لاستنبات العدمية والإرهاب، أليس الإرهاب تجسيدا حيا لسيادة الكذب السياسي في أعلى صوره؟.

مصطفى صفوان "الكلام أو الموت" تؤكد الدراسة على عدم الإعتداء على الإنسان من خلال قانون منع الكذب، وتثبيت الكلام والصدق والإلتزام به، ومن دون الصدق ينهار الرباط الإنساني في الرؤية التحليلية، والصدق هو القانون الذي يمنع الكذب والخداع والتضليل ومن ثم كل حالات الإستبداد والإستغلال.