مقالات مختارة

المكارثية الجديدة

1300x600
مسلسل «امسك إخواني» هو الأشهر في مصر السياسية خلال العام الأخير. ذلك أنه أصبح الطريق الأسهل لتصفية الحسابات الشخصية والعائلية والوظيفية والسياسية بطبيعة الحال. والقصة التي نشرها تحت ذات العنوان زميلنا الأستاذ عماد الدين حسين رئيس تحرير جريدة الشروق أمس (الأحد 31/8) واحدة من عشرات القصص التي سمعتها خلال الأشهر السابقة. ولم يلفت انتباهي في كلامه ما ذكره في أن مواطنا قبطيا اتهم موظفا بأنه «إخواني» لمجرد أنه لم ينجز له عملا أراده، وحين حقق الوزير في الأمر اكتشف أن الموظف بريء من «التهمة»، وأن الشكوى كيدية. إذ وجدت أنه ليس ضروريا أن يكون المواطن قبطيا لكي يفعلها، لأن ما أعرفه أن عشرات المسلمين لجأوا إلى ذات الأسلوب، ونجحت بعض مساعيهم في حين خابت مساعٍ أخرى.

 إنما الذي استوقفني فيما كتبه أنه حذر من المكارثية في مصر، التي تعيد إلى الأذهان اللوثة التي أصابت الولايات المتحدة في خمسينيات القرن الماضي، حين قاد النائب الجمهوري جوزيف مكارثي حملة لتصفية المعارضين الليبراليين بحجة انهم شيوعيون وجواسيس للاتحاد السوفييتي، وقد حققت الحملة نجاحا نسبيا، قبل أن يثبت فشلها وزيف الادعاء الذي أطلقه الرجل وخوف به الليبراليين المثقفين في الولايات المتحدة.

ما استوقفني هو التحذير من المكارثية في مصر الآن، وكأنها شبح يلوح في الأفق، في حين أنها حقيقة ماثلة على الأرض منذ عدة أشهر، ومع ذلك فالتحذير الذي أطلقه زميلنا يستحق الحفاوة والتقدير. ودعوته إلى التعويل على الأفعال والتصرفات التي تخالف القانون وليس على مجرد الانتماءات أو الأقوال المرسلة، ذلك كله شيء جيد يذكرنا بما هو بديهي ومن مسلمات أي دولة عصرية تعرف القانون. وكما يقال فإن مثل هذه النصائح والتحذيرات إذا جاءت متأخرة أفضل الا تأتى على الإطلاق.

قبل عدة أسابيع، أثناء الامتحانات الجامعية، ضبط أحد المعيدين طالبا متلبسا بالغش، فطبق عليه ما تقضى به لائحة الجامعات، إذ حرر محضرا بالواقعة، بعد أن ألغي امتحانه. إلا أن تلك لم تكن نهاية القصة، لأن والد الطالب ــ وهو محام له علاقاته الوثيقة ببعض قيادات الشرطة ــ حرر محضرا ضد المعيد واتهمه فيه بأنه إخواني ويحرض الطلاب على التظاهر والإضراب. وتم حبك المحضر بحيث جرى تدعيم البلاغ بشهود وتحريات جاهزة. وعلى الفور تحول المعيد الذي ضبط واقعة الغش إلى إخواني محبط ومتهم. وقد قيل له صراحة أنه إذا لم يسحب محضر واقعة الغش فإن محضر اتهامه بالتحريض على التظاهر والإضراب سيأخذ مساره القانوني ومن ثم فاعتقاله وارد وقضيته جاهزة. ليس ذلك فحسب وإنما حاولت إدارة الكلية أن تقنعه بسحب المحضر الذي حرره حتى لا يعرض نفسه لمشاكل لا حدود لها، ولن يستطيع أحد أن يساعده في هذه الحالة. لا اعرف كيف انتهى الأمر لأن معلوماتي وقفت عند حدود رفض المعيد الاستمرار في مراقبة الطلاب أثناء أدائهم الامتحانات واعتصامه بمكتب عميد الكلية الذي لم يستطع حمايته.

لقد قرأنا مؤخرا عن عزل مدير إحدى الجامعات لمجرد أنه إخواني، وعن نقل عدد من مهندسي وزارة الكهرباء بسبب التهمة ذاتها، وهى ما تكرر في وزارة التعليم العالي. كما نشرت الصحف أخبارا عن تطهير الأزهر ووزارة الأوقاف ممن جرى الشك في انتسابهم للإخوان، كما تحدثت الصحف عن تطهير كلية الشرطة من أبناء عائلات الإخوان، ونوه بعضها إلى أن ابن شقيقة الدكتور محمد سعد الكتاتني رئيس حزب الحرية والعدالة واحد من هؤلاء، وهو الآن طالب بالسنة الثالثة بالكلية. هذا في حدود ما أعلن وتحدثت عنه وسائل الإعلام، أما ما لم يعلن فالله أعلم به ــ إلا أن ما يهمنا في الأمر أن تلك الإجراءات اتخذت ليس بناء على وقائع أو مخالفات للقانون نسبت إلى هؤلاء، ولكن لمجرد انتسابهم أو صلة القرابة التي تربطهم ببعض الإخوان أو اعتمادا على تقارير وتحريات جهاز أمن الدولة. وهذه هي المكارثية الجديدة في مصر.

لا يقف الأمر عند ذلك الحد، فالتخويف والترهيب بالانتماء إلى الإخوان أصبح أسرع سلاح يستخدم لتشويه وقمع الناقدين أو المعارضين المستقلين، لذلك فإن نسبة غير قليلة منهم تتحسب لذلك الاحتمال ولا تعلن رأيا في أي قضية إلا بعد أن تؤمن نفسها بأن تقدم له بسب الإخوان ونعتهم بأقذع الصفات، ثم تسجل بعد ذلك نقدها للوضع الذي تريد. في ظل تلك الأجواء رفع شعار «من ليس معنا فهو ضدنا».

وصار الحياد مرفوضا ومدانا من ثَمَّ أصبح كل من لم يسب الإخوان مطعونا في حياده ومتهما بانتمائه السري إلى الإخوان، حتى إذا لم تكن له أي علاقة بتنظيمهم. وما لم يلجأ المرء إلى إعلان البراءة عن طريق إثبات السب واللعان، فإن أي رأي يبديه في أي قضية وطنية أو عربية أو حتى رياضية ينسب إلى الشك في انتمائه الأيديولوجي وتنسيقه مع الجماعة وانصياعه لتنظيمهم الدولي. وعليه إذا أراد أن يثبت العكس. واسألنى في ذلك، فلا ينبئك مثل خبير.


(بوابة الشرق)