كان السؤال الأكثر إلحاحا في أذهان كثيرين عشية تخلي
إيران عن نوري المالكي هو المتعلق بإمكانية انسحاب ذلك لاحقا على بشار الأسد في سوريا، لاسيما أن صلة واضحة تربط بينهما ممثلة في كونهما التابعين الأكثر أهمية للمشروع الإيراني في المنطقة، إلى جانب حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن، فضلا عن بعض شيعة الخليج الذين تحاول إيران استخدام بعضهم وقت تشاء بحسب تطور المعادلات السياسية على الأرض.
ما ينبغي التأكيد عليه ابتداءً هو أن التخلي عن المالكي كان متوقعا منذ اللحظة التي سقطت فيها الموصل بيد "الدولة الإسلامية"، وهو السقوط الذي يدرك الجميع أنه ما كان ليتم، وبعده مدن أخرى بعضلات الدولة وحدها، بل بوجود حاضنة شعبية في الوسط العربي السنّي بعد اليأس من إمكانية التفاهم مع دكتاتور طائفي هو المالكي.
وللتذكير، فقد غابت تلك الحاضنة حين عوّل العرب السنة على العملية السياسية للحصول على وضع معقول، الأمر الذي انكشف عن لا شيء في الواقع العملي، إذا طارد المالكي رموزهم وأمعن فيهم قمعا وتهميشا، وعندما ذهبوا في الاتجاه السلمي ما لبث أن تعامل مع اعتصامهم السلمي بالقوة المسلحة.
من هنا لم يكن بوسع الولايات المتحدة أن تشارك في مواجهة "الدولة الإسلامية" من دون تفاهم واضح مع إيران على شطب المالكي، وهو ما كان، لكن البعد الذي لا يقل أهمية في السياق هو إدراك إيران سريعا لحقيقة عجزها عن احتمال نزيفين في الآن نفسه؛ النزيف السوري والنزيف
العراقي، لاسيما أن العراق كان يحمل عنها جزءا كبيرا من العبء في سوريا؛ إن كان ماليا ونفطيا، أم بشريا عبر مشاركة مليشيات شيعية عراقية في القتال إلى جانب بشار، ولذلك كانت معادلة الخسارة كبيرة جدا في حال استمر النزيف العراقي، وهو ما دفع إيران إلى عناق سريع مع "الشيطان الأكبر" بقبول مساعدته مقابل صفقات سلاح للعراق في ظل الحاكم الجديد، ومقابل التخلي عن المالكي، ولكن أيضا مقابل وعود (مرجحة) بالتفاهم على الملف النووي، وحيث يدرك الجميع أن أمريكا لم تكن لتلقي بثقلها من أجل ضرب الدولة الإسلامية في العراق من دون تفاهم على ذلك الملف.
الآن، ينهض السؤال الآخر المتعلق ببشار الأسد، وما إذا كانت إيران في وارد التخلي عنه كما هو حال المالكي أم لا. وهنا يمكن القول إن إيران تدرك أن حيدر العبادي لا يمكن أن يحكم العراق بذات الروحية التي حكمه بها المالكي، وأن من دون وضع مريح للعرب السنّة، فإن التأزم سيستمر، وبالطبع لأن إبعاد الناس عن الدول الإسلامية كما حصل قبل 2010 لن يحدث ما لم يأخذوا وضعا مريحا، أما في سوريا فإن حكم الأقلية لا يمكن أن ينتج استقرارا، كما أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تكرر في سوريا ما تفعله مع العراق نظرا لاختلاف التفاصيل، كما أن إنقاذ رأس الأخير لن يكون جزءا من صفقة النووي أيضا، لاسيما أن في المشهد عناصر أخرى لا يمكن تجاهلها، لعل أهمها أن في سوريا قوىً أخرى غير الدولة الإسلامية، كما أن هناك قوىً أخرى لها حضورها في المشهد مثل تركيا والسعودية وقطر، وقبل ذلك وبعده الشعب السوري الذي قدم أغلى التضحيات، ما يجعل تبرير الموقف صعبا من الناحية الأخلاقية بمكافأة طاغية قتل 200 ألف من شعبه، بخاصة أن الكل يدرك أن عسكرة الثورة كانت قراره عمليا، بينما بدأت الثورة سلمية مثل كل ثورات
الربيع العربي.
من هنا، فإن سحب الموقف الأمريكي في سوريا على العراق سيكون صعبا مهما كانت العروض الإيرانية، لكن التسوية تبدو ممكنة بروحية مؤتمر جنيف والهيئة الانتقالية كاملة الصلاحيات.
في ضوء ذلك، يبدو أن السؤال في سوريا ليس سؤال الموقف الأمريكي، بل سؤال الموقف الإيراني، وما إذا كانت طهران ستبلغ قريبا نقطة اليأس من إنقاذ بشار أم ستواصل حرب الاستنزاف، وهو ما سيعتمد أيضا على الصراع الداخلي في إيران بين الإصلاحيين والمحافظين، لاسيما أن الطرف الأول لا يبدو مقتنعا؛ كما الشارع باستمرار المعركة، وها إن طهران تمد جسورا مع السعودية في لبنان مثلا من أجل تخفيف العبء، لكنها تصعِّد في اليمن من خلال الحوثيين ربما لكي تجعل موقفها في الصفقة الإقليمية عاليا، بخاصة في سوريا، وبالطبع بعد تراجعها في العراق، وإن بقي تحت نفوذها عمليا. كما أنها تستقطب مصر السيسي لذات الهدف أيضا.
هو مخاض عسير إذا، ولا يمكن القول إنه سينتهي سريعا، لكن المؤكد أن "الدولة الإسلامية" كانت ولا تزال أحد أهم عناصر التحريك في هذا المشهد، هي التي كان صعودها ردا على الغرور الإيراني من جهة، ونتاج الهجمة على الربيع العربي السلمي من جهة أخرى (بدايتها كانت ردا على الاحتلال الأمريكي للعراق)، وهذا ما يجعل المشهد أكثر تعقيدا، كما يجعله أكثر قابلية للاستمرار، ما لم يتراجع الغرور الإيراني، وما لم تكف الأنظمة العربية إياها عن الاستخفاف بالشعوب وشن الحرب على حريتها وحريتها، وتمويل حروب آخرين عليها.