كتاب عربي 21

النصر الزائف والهزيمة الكاذبة (2)

1300x600
ينطلق المروجون للتبشير بالنصر الزائف للانقلاب وهم أنفسهم من المرجفين الذين يطلقون أكاذيب الهزيمة لثورة يناير، إن هؤلاء الذين يتحدثون عن ترويج لنصر زائف لانقلاب فاجر أرادوا أن يجعلوا من ثورة "يناير" بعد تحويرهم لثورة "خسائر"، وهم يقصدون بذلك أن هذه الثورة يجب أن تتوارى وأن تختفي من الذكر على الألسن، أو تمر طيفا على الأذهان وتطمس فى الذاكرة ،وتدفع إلى دوائر النسيان ، إنهم يريدون أن يجعلوا منها "معرة" في تاريخ مصر فيلصقون بها كل نقيصة ويتحدثون عن كل من انتمى لها واصفين إياه بالعمالة والخيانة وبالتمويل  والعمل لحساب الخارج. 

وأشار البعض من الثوار إلى هؤلاء الزائفين الذين انحازوا بشكل أو بآخر إلى انقلاب الثالث من يوليو ليعبروا عن موقف هو أقرب ما يكون إلى تمكين الثورة المضادة على ثورة الخامس والعشرين من يناير وعلى تمكين العسكر من سدة الحكم والسلطة، بدا كل هؤلاء يمكنون لثورة مضادة كاملة ويحولون هذا الانقلاب العسكري إلى سلطة مستبدة طاغية. 

ووصل الأمر بالبعض شامتا فى كل من آمن بثورة يناير لحظة أن يعلن توبته، وأن يعترف بفشله، وأن يؤكد على أن هذا الحدث لم يكن إلا عملا خبيثا غير محمود العواقب،  وأن حساب السلبيات والخسائر يفوق بكثير أي حساب يشير إلى الايجابيات والبشائر، وبدا هذا الخطاب الذي يوطن لهذه الهزيمة مستغلا احتجاجات حدثت في الثلاثين من يونيو ليعبر عن أن سهرة 30 يونيو لم تكن إلا تصحيحا لثورة يناير لو اعترفوا بها أو أن ثور يناير كانت مؤامرة كبرى لمن لا يعترف بها ،فضلا عن سوء حال المعاش لعموم الناس.

وتواكب مع كل ذلك حديث الشقاق والاستقطاب وخطاب الهجاء والسباب بين رفقاء الأمس، صار هؤلاء يتنابذون بالأيام هذا يقول خذلتني في يوم كذا، وذاك يؤكد أنه فوض على دماء كذا، وبدا هؤلاء يتنازعون الأيام الملتبسة ويقتنصون الأخطاء لبعضهم في كشف حساب متبادل يتميز بالسواد في علاقاتهم، يقدم كشف حساب أقرب ما يكون إلى لائحة اتهامات لا يمكن الخروج منها أو عنها.
تحول هذا الشقاق إلى حالة من حالات العراك الذي يعبر عن مكايدة سياسية ومراهقة صبيانية حركت كل مكامن عدم الثقة والشك، وكانت صناعة الفرقة والانقسام والاستقطاب بيئة قابلة وملائمة لاستدعاء العسكر إلى المشهد واستغلاله في محاولة منهم للتمكين لدولة العسكر خاصة حينما يؤكد البعض أن كل مؤسسات الدولة قد انهارت ولم يبق الجيش إلا باعتباره عمود الدولة الأخير، وتلاعبت جهات إعلامية ولعبت بهذا الوطن لتبرر لانقلاب عسكري والتمكين له ضمن مسرحية هزلية من بعض هؤلاء الذين كرهوا الإخوان أكثر مما يحبون الوطن. 

بدا كل ذلك يكون مداخل رؤية سلبية لثورة يناير حتى عند بعض هؤلاء الذي أسهم فيها، وبدت تلك النخبة المحنطة التي تحولت إلى نخبة منحطة وارتبطت بعض شخوصها بثورة يناير ليقوموا بأدوار شديدة الخطورة في تفكيك الدولة والمجتمع والوطن، بل وتفكيك الثورة التي عملوا من أجلها يوما واجتمعوا عليها أياما.

رغم هذه البيئة القاتمة التي أحاطت بثورة يناير ومحاولة الدفع بثورة مضادة زائفة في ثوب ثورة تصحيح، وثورات التصحيح في تاريخ مصر دائما ما كانت انقلاب على ما قبلها، في هذا السياق يبدو أن الدفاع عن ثورة يناير يعتبره البعض قضية يائسة وعملية فاشلة ومهمة مستحيلة. 

هؤلاء المرجفون على أرض مصر من إعلاميين ومثقفين حاولوا بشكل أو بآخر أن يروجوا لهزيمة ثورة يناير بلا معقب واستغلوا في ذلك بيئة قابلة حاولت أن تصور هذا الأمر من خلال مشاهد أخرى تواكبت معها من مثل مهرجان البراءات التي أعطيت لكل رموز نظام مبارك المخلوع وحتى هذه المحاكمة الهزلية التي رأينا بعض فصولها في إعادة محاكمته، وفي ذات الوقت فإن شهيدا لم يقتص له وإن مصابا لم ينل حقه، الأمر إذن يعني وئد هذه الثورة إلى الأبد. 

ورغم هذه الصورة القاتمة وترويج هذه الهزيمة الكاذبة فإن ثورة يناير لا تزال تمثل معاني الأمل في صناعة المستقبل، وتمثل الحالة المجمع عليها في توافق قبل استقطاب وانقسام، فإنه في الأيام الثمانية عشر المتفق عليها التي عكست منظومة قيم تقوم على قاعدة لحمة الوطن والجماعة الوطنية، واحتضان شعب لثورة وأمل أمة وشعار يحرك كل أمال مصر وشبابها (عيش كريم وكرامة إنسانية وحقوق أساسية وحرية وعدالة اجتماعية)، شعار جامع جعل من هذه الثورة عنوانا لمرحلة جديدة في صياغة مستقبل مصر على أيدي أهلها وشبابها وكل شعبها. 

وكذا فإن ثورة يناير مثلت في حقيقة الأمر حالة كاشفة وفارقة بعد أن صاحبتها مراحل انتقالية فاشلة، فترة المجلس العسكري وفترة الرئيس المدني المنتخب الذي تعمدت بعض القوى فشله وإفشاله وفترة الانقلاب العسكري الذي تحول إلى شرعنة زائفة مستغلا غطاء شعبيا يثير نعرات الفرقة وصناعة الكراهية، ثورة يناير شكلت نقطة البداية التي رسمت مسارا لتغيير جذري وصياغة مستقبل سياسي إلا أن هذه المراحل الانتقالية قد طوقت هذه الثورة بحال الانقسام والاستقطاب والفرقة كما طوقت أهدافها وعدنا إلى مشهد تطل فيه دولة أمنية قمعية ودولة فاشية عسكرية، وتظل هذه الثورة التي أخرجت الناس من صناديق الخوف لتعبر عن أن الشعوب لم تعد رقما يمكن تخطيه في معادلة هذه الثورات وأن الشباب لا يمكن بأي حال من الأحوال إغفال أدواره في كل عمل يتعلق بمكانة مصر وتنمية قدراتها والحفاظ على مقدراتها.

ثورة يناير تعلن أنها لم تهزم من خلال استمرار الاحتجاجات والتظاهرات التي تراكمت في مواجهة انقلاب يمثل كل ألوان البطش والقمع والقتل والقنص والحرق والخنق والاعتقال والخطف والمطاردة، رغم كل هذه الأحوال التي يمكن أن تطمس آمال أي ثورة فإن الوقوف في مواجهة هذا الانقلاب والعمل على دحره وانكساره أمرا لا يمكن إنكاره ، الثورة مستمرة وأن الميادين تنتظر اللحظة التي تحتضن فيها أهل الثورة الحقيقيين لتجعلها ملحمة ثورية مستمرة تتواصل وتتصاعد لتعبر عن أمل ثورة مستأنفة ووطن يشيد مستقبله السياسي والمجتمعي. 

الثورة لم تهزم .. قد تمرض وقد يصيبها بعض الوهن أو أعراض ضعف هنا أو هناك ،ولكنها في حقيقة الأمر ومن خلال الشباب الذين يستمسكون بها  لا يمكن بأي حال أن تموت أو تهدر الفرصة وتمكن لمن يئدها، مثلت هذه الثورة حالة كاشفة فارقة فرزت الكثير من هؤلاء الذين ادعوا أنهم منها ، وكشفت كل هؤلاء الذين لم يكونوا إلا ذيولا لدولة الاستبداد والفساد وكشفت بشكل واضح عن دولة عميقة غميقة بانت في أشكالها وبرزت في مصالحها الدنيئة ولم تعد عميقة بل صارت مكشوفة مفضوحة، وهو ما يعني أن المواجهة قد تحددت عناصرها وتأكدت ميادينها الحقيقية التي تؤكد أن الثورة لم تعد تعني إطاحة برأس ولكنها تعني ضمن ما تعني استراتيجيات لتغيير جذري لهياكل ومؤسسات وأدوار، مؤسسات كنا نحسبها بحق مؤسسات دولة فإذا بها مؤسسات ثورة مضادة تمكن لتحالفاتها ومصالحها وفسادها واستبدادها.

إن على هؤلاء الذين أخلصوا لثورة يناير ولا زالوا يخلصون أن يتجهوا بفكرهم لا إلى استدراجهم إلى أفكار مخذلة تتعلق بالهزيمة الكاذبة ولكن عليهم أن يردوا بعمل حقيقي على أرض هذا الوطن وفي ميادين الثورة ،وفي سياق يستحضر فعل الثورة المضادة التى صفت معارضيها في الزنازين، فوجب علينا أن نصطف نحن في الميادين نعبر عن مقاومة حقيقية لدولة الفساد والاستبداد أيا كانت أشكالها وأيا من كان يحاول عودتها أو حماية مصالحها، الاصطفاف في هذا المقام معنى غاية في الأهمية يشكل جدية هؤلاء الذين أخلصوا لهذه الثورة من أجل ملحمة ثورية جديدة مطالبين بنصر جديد يمكن لثورة شعب ووطن يمُكِّن لأهدافها ويحمي مكتسباتها.