الحوثيون

التسامح المذهبي في اليمن

امتازت اليمن بالتسامح المذهبي على مدى العصور - أ ف ب
لا يحصى عدد من أنجبتهم اليمن من رجال الفكر والعلم والأدب؛ بحيث ملأوا الآفاق، وساهموا في الإشعاع الحضاري الإسلامي الذي ضرب بأطنابه في مشارق الأرض ومغاربها؛ فكان منهم الصحابة الأخيار، والأئمة الأطهار، والعلماء والعباد والصالحون، والقادة العظماء والفاتحون.

ولم تحظَ بلد -فيما أعلم- بمثل ما حظيت به هذه البلاد من التسامح والتآخي، والبعد عن فتن التفرق المذهبية والآفات الطائفية؛ جرياً على ما جبلوا عليه من سلامة النيات، والبعد عن العصبيات. وهم كما وصف الله أرضهم بقوله: ?بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ?[سبأ: 15].

وقول المصطفى ص: "أتاكم أهل اليمن أضعف قلوباً، وأرق أفئدة. الفقه يمان، والحكمة يمانية".

ولم تُعرف بلد بالتسامح المذهبي بين مذهبيها: الشيعي (الزيدي)، والسني (الشافعي) كاليمن بشهادة المؤرخين اليمنيين والمستشرقين والرحالة الأوروبيين.

لقد سجل الرحالة "نيبور" في رحلته إلى اليمن انطباعاً رائعاً عن تسامح اليمنيين؛ فقد عكس عدم تزمت اليمنيين نفسه على سلوكهم وقناعاتهم تجاه الفرق الدينية الإسلامية المختلفة، وتجاه الأديان الأخرى. سجل نيبور انطباعه هذا عبر العديد من المقارنات؛ فالشيعة والسنة في كل من إيران وتركيا لا يطيق بعضهم بعضاً، ولا يصلي أتباع مذهب في مساجد المذهب الآخر؛ أما اليمنيون فلم يؤثر اختلاف المذاهب في علاقاتهم، وليس هذا وحسب بل إن اليمنيين لا يكرهون أتباع الأديان الأخرى.

وقد أكد نيبور أن عدد السنيين نسبة إلى الزيديين متساوٍ تقريباً وأن"أتباع المذهبين يتعايشون بصورة ممتازة".

ويضيف نيبور قائلاً: "ويبرز تسامح المسلمين مع من أسلم في عدم منعهم من الاستمرار في التعامل والاحتكاك بأتباع دينه السابق، كما أنهم لا يحولون بينه وبين مغادرة اليمن متى أراد ذلك، ولو كان في صحبة أتباع دينه السابق. وإذا تزوج مسلم من مسيحية أو يهودية، فإنه يحترم عقيدتها، ولا يحاول أن يجبرها على التنكر لدينها. ويمارس اليهود حياتهم وطقوسهم الدينية، ويشيدون معابدهم بكل حرية، كما يمارس الهنود طقوسهم الدينية، ولكن لا يسمح لهم بإحراق موتاهم".

ويعزز هارولد ف. يعقوب. في كتابه (ملوك شبه الجزيرة) ما ذكره نيبور، فيقول: "نحن ميالون كثيراً إلى تحريك الاختلاف والتباعد بين الطائفتين في شبه الجزيرة العربية، وهو بالأحرى انقسام جغرافي. وأسلوب التفرقة بين السنة والشيعة معروف بعنف أكبر في الهند، ولربما كان ذلك راجعاً إلى الاختلاف في فهم الإسلام في التاريخ المتأخر كثيراً، وفي اليمن تصلي كلا الطائفتين في مسجد واحد، أما في الهند فلكل طائفة مسجدها الخاص. والسنة والشيعة اليمنيون يتزاوجون فيما بينهم، ولم أرَ أو أشاهد حالة نادرة بأنَّ رجلاً غير عقيدته الدينية بسرعة كما يغير عباءته".

وفي مقال لـ ر.ب. سيرجنت بعنوان (الزيود) يقول فيه: "بين كل المذاهب الشيعية المتعددة في الإسلام، أو المذاهب المؤيدة لصاحب الحق الشرعي في الحكم نجد الزيود – أتباع زيد بن علي – هم أصحاب المذهب الأكثر اعتدالاً. إنهم معتدلون بالفعل، إلى الحد الذي يصف فيه المجتمع الزيدي الوحيد المتبقي في اليمن الأعلى اليوم نفسه أحياناً بأنه يمثل "المذهب الخامس" بين المذاهب السنية التقليدية الأربعة. ويبدو أن الزيود قد مثلوا في مراحل مبكرة من نموهم شكلاً من أشكال الإسلام أقرب ما يكون إلى الشكل الأصلي في نشأة الدعوة الأولى، وفي جميع المراحل ظل أصحاب هذا المذهب المؤيد لآل البيت بعيدين عن المعتقدات المتطرفة لغلاة الشيعة[...]، وفي اليمن لا يبدو أن هناك أي صراع أو خلاف حول الشريعة بين الشوافع والزيود في الوقت الحالي، وهم يصلون معاً في المسجد نفسه وراء إمام مشترك يؤم جميع المصلين. ويمكن القول بالفعل أن هناك عوامل (جيوسياسية  geo-political) هي التي تفرق في الواقع بين المذهبين وليست الخلافات الدينية على الرغم من وجودها".

ولَمَّا شاعت المقالات والاعتقادات المختلفة بين أهل الإسلام، وافترقت الأمة إلى فرق ومذاهب شتى، وفشت هذه الآراء المختلفة في بلاد الإسلام (سنة الله في الذين خلوا من قبل) - تلقفت اليمن كغيرها من سائر بلاد الإسلام بعضاً من هذه النحل؛ فكان حظها من الفرق الشيعية أفضلها وهي الزيدية، وهم أتباع الإمام الشهيد زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وكان نصيبها من مذاهب أهل السنة أوسطها، وهو مذهب الإمام الجليل محمد بن إدريس الشافعي. فكأنَّ أهل اليمن اختاروا مذاهبهم اختياراً، وانتقوها انتقاءً وسط هذا السيل الهادر من المذاهب المتباينة، والمقالات المختلفة.  

لقد بقي مذهب الزيدية والشافعية في اليمن إلى يومنا هذا كجناحي طائر، وظل الاتصال قائماً بين علماء المذهبين؛ فالزيدية فتحت باب الاجتهاد ولم تغلقه كما حصل في المذاهب الأخرى، وهذا من مناقبها. وكان كل من وجد من نفسه أهلية الاجتهاد لم يتقيد بمنقول مذهبه؛ فحصل بذلك خير كثير، وخرج من علماء الزيدية علماء أجلاء وأئمة فضلاء، كالإمام الكبير يحيى بن حمزة، والإمام المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير، والجلال، وابن الأمير، والمقبلي وغيرهم ممن لا يحصيهم عد، ولا يحصرهم حد. وحصل اتصال بين علماء المذهبين عن طريق الأخذ والتلقي عن بعضهما ؛ فهذا علامة الزيدية حميد بن أحمد المحلي والفقيه أحمد بن أبي الخير  يأخذان على الفقيه إسماعيل الحضرمي الشافعي، وهذا الإمام يحيى بن محمد السراجي الزيدي يأخذ على الشيخ الصوفي الكبير أحمد بن موسى بن عجيل الشافعي في نواحي تهامة.

وهذا العلامة عبد الله بن علي الصعيتري يصفه صاحب الطبقات بأنه"كان عالماً فاضلاً محققاً مفتياً ترد عليه الفتاوى من اليمن من الزيدية والشافعية".

وكان العلماء من آل الإرياني إذا انتهوا من دراسة مذهب الإمام زيد انتقلوا إلى زبيد لدراسة مذهب الشافعي؛ فمنهم العلامة علي بن حسين بن جابر الإرياني الذي يصفه القاضي الأكوع بأنه "عالم محقق في المذهبين الزيدي والشافعي"،وكذلك العلماء من آل الشويطر، فإن منهم من هو على مذهب الإمام زيد كما أن البعض الآخر على مذهب الإمام الشافعي، وكذا العلماء من آل العُلَيف الحكميين سكان حلي بن يعقوب فمنهم شافعية وبعضهم زيدية.

إلى غير ذلك مما يطول شرحه، ويتسع ذكره، وليس مرادنا الاستقصاء؛ فالشوط بطين، وبالثمرة الواحدة يستدل على باقي الثمرة.

إن المتأمل لواقع المذهبين الشيعي والسني يرى أن مظاهر الائتلاف بينهما كانت واضحة وجلية، كما أن شقة الخلاف كانت طفيفة، ولم تكن الفجوة بينهما بالواسعة؛ لذا شهد هذان المذهبان حركة تنقلات واسعة بين أتباعه؛ وهذا بسبب غلبة مظاهر الاتفاق بين الفريقين، وعدم اتساع الهوة بينهم.

وأخيراً، فإن الناظر في التاريخ اليمني لا يلاحظ ظاهرة التسامح تبسط ظلالها من خلال المذاهب الإسلامية فحسب؛ بل إنها لتتعدى ذلك من خلال التسامح مع الأقليات غير المسلمة كاليهود والبانيان الهنود، ولعل إطافةً بسيطة في ما كتبه نيبور في رحلته أوحبشوش في رحلته مع هاليفي تعطي دلالة واضحة على تسامح اليمنيين وطيبة قلوبهم وطهارة أرضهم من قيم العنف والكراهية ما يجعلهم مثالاً حسناً يُتطلع إليه، وأنموذجاً يحتذى به. 

إن الصراعات التي يشهدها العالم العربي اليوم صراعات سياسية في جوهرها تدور  حول النفوذ والسلطة، وإن كانت تتوسل بالديني أو المقدس. وقد لاحظ عالم كبير في الإلهيات وهو الشهرستاني: أن أعظم الخلافات التي حدثت بين المسلمين هو الخلاف على السلطة، وذلك في  عبارته الشهيرة وهي: "وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة؛ إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان".