مقالات مختارة

خسارة الاستعمار من إقامة إسرائيل

1300x600
لديّ نظرية تقول إنّ الاستعمار خسر بإقامة دولة لليهود في فلسطين؛ وإنّ أصحاب نظرية أنّ إسرائيل أسست كياناً لتفتيت الأمّة العربية، وفصل مشرقها عن مغربها، ليسوا دقيقين تماماً. وما تقوم به الحكومة الإسرائيلية في فرنسا على وقع الإرهاب هناك، تذكير بكل ذلك. 

يعود أصل اهتمام الاستعمارين الفرنسي والبريطاني بفلسطين، ومعهما الاستعمار الروسي (قبل العصر البلشفي)، إلى أهميّة فلسطين كصلة وصل بين دول البحر الأبيض المتوسط ودول الجزيرة العربية وبلاد فارس. وكانت بريطانيا أول من اهتم بهذه السمة في منافستها مع فرنسا. فالأخيرة، هي التي بدأت فكرة قناة السويس، لتصل بين البحرين "المتوسط" و"الأحمر"، وكانت هي التي تمتلكها مع بداية شقها، ثم اضطرت لبيعها لأسباب مالية إلى لندن. وبينما كانت بريطانيا تريد مد خط سكة حديدية من موانئ فلسطين أو سورية إلى العقبة والبحر الأحمر لمنافسة القناة، فإنّ فرنسا صارت تسعى للمشروع نفسه لمنافسة القناة، ومن هنا اتفقت روسيا وبريطانيا وفرنسا في اتفاقية "سايكس- بيكو" على حماية دولية ثلاثية مشتركة على فلسطين (بخريطة مختلفة عن الراهنة).

ولأسباب مختلفة، فشل الاتفاق، لكن الواضح أنّهم كانوا يريدون فلسطين لأنها صلة وصل. وسوّق الصهاينة أنفسهم بطرق مختلفة ضمن هذا السياق؛ فتقدموا من بريطانيا بداية القرن العشرين مرة بالقول إنّ إسرائيل ستشكل منطقة عازلة تحمي قناة السويس من تقدم جيوش مثل فرنسا وألمانيا وتركيا، وطلبوا دولة في العريش؛ ومرة بأنّهم سيشرفون على سكة حديدية من سواحل فلسطين إلى الجنوب، تتآزر مع قناة السويس. لكن المشروع الصهيوني ضرب فكرة أن تخدم فلسطين معبراً للبضائع الاستعمارية. أضف إلى ذلك أن الاستفزاز الذي شكله قيام إسرائيل عند العرب والمسلمين، وُجِّه في جزء منه للاستعمارين البريطاني والفرنسي ودورهما في إيجاد هذا الكيان، فكان هذا ثمناً آخر يدفعه المستعمرون. 

تضاعف الثمن الذي يدفعه المستعمرون بعد خروجهم. فعندما أُممت قناة السويس على يد جمال عبدالناصر، العام 1956، كان بإمكان المستعمرين، لو كانت علاقاتهم أفضل مع الفلسطينيين ولم يكن الكيان الصهيوني موجوداً، التفكير بسكة حديد أو غير هذا. وربما لولا الإسرائيليون، لكان المناخ أفضل للتفاهم مع المصريين. 

اتخذ الصهاينة من المذابح في أوروبا وسيلة لتبرير الهجرة إلى فلسطين. ولكنه استخدام انتهازي، فمثلا عندما وقعت مذابح روسيا نهاية القرن التاسع عشر، ومحارق النازية في القرن العشرين، قالوا إنّ فلسطين هي الحل، ويجب أن نهاجر إليها فهي الآمنة. وعندما وقعت صدامات البراق نهاية العشرينيات، نشروا في صحافتهم وأقاموا حملات في العالم أنّ الرد على "المجازر" في فلسطين هو الهجرة إليها. إذن، في الحالتين الحل على حساب فلسطين والفلسطينيين، وفي الحالتين هو الخطاب القومي الذي يوظف كل شيء لمصلحة النخب وأيديولوجياتها وبرامجها الصراعية والقومية.

الآن في فرنسا، رغم أنّ الضربات في غالبيتها لم تستهدف يهوداً، إلا أنه يراد تحويل الأمر لحفلات ومهرجانات وندوات لحفز ما لا يقل عن 15 ألف يهودي فرنسي على الهجرة لفلسطين في عام واحد.

هذه الدعوات تتحدى فرنسا قبل أي أحد، وتتحدى قدرة باريس على حفظ أمن مواطنيها بغض النظر عن دينهم. والأمر استفز حتى الإسرائيليين من أصل فرنسي (المهاجرين أصلا) الذين انتقدوا دعوات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للهجرة الجماعية لليهود الفرنسيين. وقال ناتان شارنسكي، رئيس "الوكالة اليهودية" العالمية، إنّ الحذر واجب في اختيار الكلمات، حتى لا يبدو الإسرائيليون كمن يقول "إنّ البيت يحترق فاهربوا منه". وما بثته محطات تلفزة وصحف إسرائيلية عن أنّ الرئاسة الفرنسية عارضت مشاركة نتنياهو في مسيرة التضامن مع الضحايا، وأنّ الأخير فرض نفسه، وأن باريس تخشى أن يُحوّل حضور نتنياهو الحدث لنقاش حول الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، هو مؤشر على أنّ العالم ورعاة إسرائيل السابقين يدركون أي ضرر تسببه السياسات الإسرائيلية. وما يزال العالم يتذكر أنه في العام 2003، أغضبت الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك دعوات آرييل شارون، رئيس وزراء إسرائيل حينها، لهجرة يهودية فورية لفلسطين، بحجة أمنهم؛ فلا يوجد رئيس يسعده أن يقال لمواطنيه "بلدكم لا يقدم الأمن لكم"، وهذا يتكرر الآن. 

السؤال: هل يتحد العالم المدرك لخطورة أصولية وتسييس الدين الذي تقوم به إسرائيل؟



(نقلا عن صحيفة الغد الأردنية)