مقالات مختارة

إعادة إنتاج 11 أيلول في شروط الربيع العربي

1300x600
شكل الهجوم الإرهابي الذي تعرضت له مجلة «شارلي ايبدو» الفرنسية، في السابع من شهر كانون الثاني الجاري، نوعاً من استعادة سيناريو هجمات 11 أيلولسبتمبر 2001 بكل أبعاده وتداعياته. لكن هذا الزلزال الذي استيقظ عليه العالم في صباح اليوم المذكور، وقع في ظل شروط أكثر تعقيداً، على خلفية ما يحدث في منطقتنا المضطربة منذ أربع سنوات. قد يكفي، للربط بين مجزرة 7 كانون الثاني/يناير وتداعيات الربيع العربي، واقعة هروب حياة بومدين ـ إحدى المتورطات في هجمات باريس- إلى سوريا عبر الحدود التركية، بعد أقل من 24 ساعة من وقوع الهجمات الإرهابية.

للمقارنة بين الحدثين، نرى أن المسرح الجغرافي لحدث 11 أيلول/سبتمبر كان يجمع بلدين تفصل بينهما مسافات شاسعة هما أفغانستان والولايات المتحدة، في حين تقلصت هذه المسافة كثيراً في 7 كانون الثاني/يناير إلى تلك المسافة الفاصلة بين ضفاف البحر الأبيض المتوسط الذي يشكل حوضاً حضارياً واحداً. بكلمات أخرى، أصبح مصنع انتاج الإرهاب وهدفه في مكان واحد، خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن قتلة رسامي الكاريكاتير الفرنسيين هم مواطنون فرنسيون، مقابل العائدية السعودية والإماراتية لمنفذي هجمات نيويورك وواشنطن. 

غير أن الجنسية الفرنسية لمرتكبي الجريمة البشعة لا يعفي المسلمين من مسؤولياتهم السياسية والأخلاقية في الإدانة الصريحة لهذه الجريمة الإرهابية التي ارتكبها عدد من القتلة باسم دينهم. لا جدوى من التبرؤ الساذج الذي يجرد هؤلاء القتلة من الإسلام. فالواقع يشير إلى تعدد تأويلات الإسلام، ومنها ما يسمح بارتكاب فظاعات باسمه. المطلوب، إذن، هو أوسع انشقاق عن هذا الإسلام الذي يعاند وقائع العصر وشروطه ويحارب قيمه الإنسانية العامة. فنحن لسنا أمام عدد محدود من الأفراد يمكن بسهولة أن نحجر عليهم ونكافحهم بالوسائل الأمنية والقانونية، بل أصبح لدينا «دولة إسلامية» ممتدة على مساحة جغرافية واسعة بين العراق وسوريا، فضلاً عن امتداداتها في جيوب كثيرة في ليبيا ومصر وغيرهما من البلدان والمناطق. والأهم من ذلك أنه لدينا إيديولوجيا متصلبة قادرة على انتاج منظمات إرهابية كالفطر.

هذا هو الوجه الأول لكارثة 7 كانون الثاني/يناير التي يشكل العداء العنصري للإسلام والمسلمين وجهه الآخر. مشهد القادة السياسيين الذين تصدروا مظاهرة باريس المليونية تنديداً بالإرهاب، يقدم لنا صورة معبرة عن تعقيد الحالة التي نواجهها في حقبة «ما بعد شارلي ايبدو» إذا جاز التعبير. يكفي حضور الإرهابي نتنياهو في هذه المناسبة ليشوش المشهد ويخلط الأوراق ويقدم الذرائع للمترددين في إدانة جريمة باريس. فهذا الحضور يعيد تذكيرنا بالحرب الفاشلة التي أطلقتها إدارة أوباما على تنظيم «داعش» في العراق وسوريا، في الوقت الذي تغازل فيه مصنع الإرهاب العالمي في طهران وتسكت فيه على جرائم ربيب ولي الفقيه في دمشق.

هذا مختلف كل الاختلاف عن موقف الرأي العام الفرنسي والأوروبي. الرئيس الفرنسي أولاند طلب من نتنياهو عدم الحضور في مظاهرة باريس. الحكومة الفرنسية، وكذا الألمانية، طالبوا صراحةً بعدم الخلط بين الإرهابيين والإسلام، وأدانوا أي ردود فعل عنصرية واقعة أو محتملة ضد مسلمي أوروبا. وهذه حال معظم الرأي العام العاقل، باستثناء اليمين العنصري الذي لا يمكن التغاضي عن حجمه ووزنه المتصاعدين باطراد.

هناك أيضاً من يشكون من ازدواج المعايير بالقول «وهل دم 12 فرنسيا أغلى من دم 300 ألف سوري قضوا بيد النظام الكيماوي المدلل في دمشق؟». هذه محاججة فاسدة. 

سكوت بعض المجتمع الدولي عن جرائم النظام الكيماوي لا يرد عليه بالسكوت على جرائم أخرى، وخاصة إذا كان مرتكبوها ينسبون جريمتهم إلى دين الإسلام. أما أن الإعلام والحكومات يمنحون أوزاناً متفاوتة لجرائم مختلفة وفقاً لهوية المرتكب، ويوجهون الرأي العام العالمي وفقاً لمعايير تلائم سياساتهم، فهذه حقيقة نابعة من موازين القوى على الصعيد العالمي التي لا تهتم أبداً بمراعاة حرمة مبدأ العدالة. ونحن نتحمل قسطنا من المسؤولية عن غياب العدالة هذا. فالسلطات المتوحشة التي تحكم بلداننا هي التي أفقدت دمنا قيمته قبل أن تفعل ذلك حكومات الدول القوية. وإرهابيونا الإسلاميون استباحوا دماءنا واسترخصوها بأكثر مما فعلت سياسات دول الغرب.

يشير الكاتب التركي جنكيز تشاندار، بحق، إلى هذه المفارقة ذات الدلالة: يعيش في فرنسا ملايين الجزائريين منذ عقود. وعلى رغم أن الاستعمار الفرنسي للجزائر قتل مليون ونصف المليون من الجزائريين إبان حرب الاستقلال، لم يلجأ الجزائريون إلى عمليات انتقامية. في حين أن الموجة الإسلامية الجهادية اليوم تستهدف أرقى القيم الفرنسية (حرية التعبير) ممثلة في رسامي كاريكاتير مجلة شارلي ايبدو.

بدلاً من مواجهة السياسات الغاشمة لدول غربية بعينها، يستهدف الإرهاب الخارج من مجتمعاتنا وثقافتنا أفضل ما في الحضارة الغربية من قيم. هذه هي المعادلة ببساطة.



(نقلا عن صحيفة القدس العربي)