كتاب عربي 21

الإعلام حين يفجّر نفسه

1300x600
بعد منتصف ليل الاثنين الماضي بدقيقة واحدة، انفجرت عدة عبوات ناسفة في برجي الكهرباء المغذيين لمدينة الإنتاج الإعلامي، لتعيش المدينة ليلة مظلمة، وينقطع الإرسال عن عدد كبير من القنوات، ويكسب الإرهاب نقطة جديدة في صراعه مع الدولة ومؤسساتها.

خبر محزن، لكن الناس لم تحزن، غالبيتهم كانوا سعداء بقضاء ليلة دون فضائيات، بعضهم تعاطف مع الإرهابيين وأيّد التفجيرات لأول مرة مادام أسفر عنها انقطاع البث عن القنوات، وبعضهم الآخر لم يهتم.

ليس في الأمر غرابة، الإعلام بدأ يجني ثمار ما زرعه لأكثر من عامين، لم يستجب أحد لتحذيراتنا السابقة من خطورة تحول الإعلام من ناقل للحقيقة إلى مروج للأكاذيب، ومن صانع للبهجة إلى تاجر للكراهية، ومن عين للناس إلى ذراع للسلطة، لذلك كان طبيعيًا أن ينظر الإرهاب إلى الإعلام شريكا في السلطة فيستهدفه، وأن ينظر الناس إليه كأداة تضليل فلا يتعاطف معه.

على أبناء المهنة التوقف أمام دلالات حادث الإنتاج الإعلامي وردود الفعل تجاهه، لإدراك الأزمة الحقيقية التي تمر بها مهنتهم، بعدما أصبح الإعلام خصما للجميع، خصم لمن يحرض عليه ويبرر قتله، وخصم لمن يكذب عليه ويبيع له الوهم، وخصم لمجتمع يتجاهل مشاكله إرضاء للسطلة، وخصم حتى للسلطة التي تؤكد في كل خطاباتها عدم رضاها عن أدائه وطمعها في مزيد من التنازلات.

عليهم أن يدركوا أسباب الأزمة وأدوات الحل إن كانوا يريدون لمهنتهم خلاصا من مصير مظلم ينتظرها وينتظرهم.

أسباب الأزمة:

1- نمط الملكية: وسائل الإعلام المقروءة والمرئية مملوكة بالكامل لرجال أعمال جمعوا أموالهم في عصر مبارك، ويضعون على رأسها صحفيين وإعلاميين عُرفوا بولائهم لنظام مبارك، وبعضهم كان رأس حربة لمشروع التوريث وعينًا لأجهزة الأمن، وبما أن كثيرين يعتبرون النظام الحالي امتدادا لنظام مبارك، فإن الإعلام اعتبر مساندته وضمان بقائه مسألة حياة أو موت، وشيئا فشيئا ذابت الفواصل، ولم يعد الإعلام داعما للنظام الحالي، بل أصبح جزءا أصيلا ومهما منه، ومن ثم أصبحت مهمة أي معارض وكاره للنظام أن يهزم الإعلام أولا.

2- السياسة التحريرية: كان يمكن للإعلام أن يدعم النظام الحالي بحرفية، ويسمح بهامش معارضة من الداخل، يستشهد بها إذا اتهمه أحد بخدمة النظام، لكنه أبى إلا أن يختار الدعم المطلق المباشر الفج الفاجر أحيانا، قرر أن يساند أخطاءه وجرائمه قبل إنجازاته، وأن يبرر القتل والدماء ما دامت قد أسيلت على يديه، وأن يصدّر للناس أي "شخبطة" على أنها تخطيط للمستقبل، والقاعدة تقول إن بإمكانك أن تخدع بعض الناس كل الوقت أو كل الناس بعض الوقت، لكنه ليس بالإمكان خداع كل الناس كل الوقت.

3- الخسائر الاقتصادية: طبيعي أن تؤدي سياسة كهذه إلى عزوف الناس عن الإعلام، ومن ثم عزوف الإعلانات عن القنوات، فالإثارة هي رأسمال الإعلام، والإثارة يخلقها تعدد الآراء واختلاف وجهات النظر بين الضيوف، وبعضهم وبين الضيوف ومقدمي البرامج، لكن بعدما أصبح مقدم البرنامج مؤيدا للنظام، وجميع الضيوف مؤيدين للنظام، ويقولون كل يوم كلاما مؤيدا للنظام لم يعد في الأمر إثارة تذكر.

أضف إلى ذلك إبعاد الإعلاميين الذين يتمتعون بشعبية كبيرة ومردود إعلاني كبير، لأن موقفهم السياسي مخالف للدولة، واستبدالهم بآخرين محدودي الموهبة معدومي الكفاءة منزوعي الشعبية، وكانت النتيجة اقتراب بعض القنوات من الإفلاس، وإغلاق بعضها بالفعل، وإيقاف كثير من البرامج بعد تحقيقها خسائر كبيرة وعدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها.

4- ضعف النقابات الإعلامية: لا توفر نقابات الصحفيين والإعلاميين على اختلافها حماية تذكر لأعضائها، وتتركهم فريسة لعلاقات عمل غير عادلة وعرضة للطرد حال الاعتراض على السياسة التي تتبعها وسيلته الإعلامية أو محاولة تبني خط مخالف لها.

بناء عليه، أصبح الصحفيون والإعلاميون المخالفون إما مضطرين للبقاء في عملهم لاجئين لأضعف الإيمان، وهو أن يكونوا مسؤولين عن أنفسهم وما يكتبونه أو يقولونه، بصرف النظر عن سياسة صحفهم وقنواتهم، أو ترك العمل بإرادتهم أو مجبرين، وفي كلا الحالتين أصبحت وسائل الإعلام حكرا على المنافقين والملوثين.

أدوات الحل:

1- تقديم البديل: أن يسعى المشغولون بتحسين وضع الإعلام للتركيز على تقديم نموذج إعلامي راق يظهر للناس أن الإعلام ليس شرا كله، ويدفع وسائل الإعلام الأخرى لتبني نموذج مماثل، وإلا أصبحت مهددة بالإفلاس والغلق.

2- نقابة الصحفيين: أن تقوم النقابة بدورها في حماية الصحفيين والإعلاميين الذين تصفيهم الوسائل الإعلامية لمخالفتهم لخطها العام، وأن تساندهم في الحصول على تعويضات مناسبة، حتى لا تستسهل هذه الوسائل في المستقبل طرد الصحفيين.

3- تعديل أنماط الملكية: الضغط من جانب الجماعة الصحفية والإعلامية للوصول إلى آلية تمنع تدخل رأس المال في المحتوى التحريري، بحيث يكون في مجلس الإدارة ممثلين للصحفيين والعاملين في المؤسسة، وتكون له صلاحيات في اتخاذ القرار، دون أن ينفرد المالك/ رجل الأعمال في توجيه دفة الوسيلة الإعلامية.

4- الإرادة: أن يكون الصحفيون والإعلاميون قد تعلموا من التجارب السابقة أن الرهان على السلطة -أي سلطة- هو رهان خاسر؛ لأنها قد تتغير أو تغير رجالها في أي لحظة، وأن الرهان على رجل أعمال يدفع ويموّل هو رهان محفوف بالمخاطر؛ لأنه يضع رقبة مئات العاملين تحت رحمة شخص واحد بحساباته وسقطاته وانحيازاته، وأن الرهان يجب أن يكون على الناس الذين يقدم لهم الإعلام منتج محترم يقبلون عليه ويحترمونه، فتأتي الموارد من الناس وإليهم.