كتاب عربي 21

الاتحاد العام أو العجل التونسي المقدس

1300x600
لقد رمى الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل الجملة الممنوعة تونس على أبواب ثورة جديدة فأثار غضب الحاكمة الفعلية للبلد السيدة وداد رئيسة نقابة الأعراف. فزأرت في وجهه فخفت صوته وخنس كما يخنس القط. واتضحت الصورة أكثر.

لم يكن عباسي شجاعا بما يكفى لينتمي لثورة ولم تكن نقابته صادقة بما يكفي لتقود ثورة وتحميها وتدفعها إلى تحقيق أهدافها غير أن المسَّ من قدسية النقابة يحولها إلى عجل مقدس قد يسمع له خوار وقد سمعت خواره ووجدت وهم الإله المزيف.الذي يرضى بفتات مائدة الأعراف.

النقابة فخر قديم وعار ماثل

في انطلاق ثورة 17كانون الأول/ ديسمبر وامتدادها إلى المنطقة العربية طرح السؤال لماذا نجح التوانسة في إسقاط رأس النظام بسرعة.وذهبت التحليلات بسرعة إلى إبراز دور النقابة في تاطير الشارع وقياده ثم امتد الفخر التونسي إلى تمجيد مؤسسات المجتمع المدني المكتملة مقارنة بالعرب. ثم عطف التاريخ الحديث على القديم لتبنى في مخيلة الناس صورة نقابة وطنية لا تخون ولا تبيع حتى صار كل نقد لموقفها كفر وتجديف.

لم تكن النقابة مفجِّرة الثورة بل كانت قيادتها المركزية تسند رأس النظام حتى اللّحظات الأخيرة. ولكن نقابيين شرفاء والأصح القول رجال شرفاء منخرطون في النقابة (شرفهم ووطنيتهم سابقة على صفتهم النقابية) مكنوا الشباب الثائر من المقرات الجهوية للنقابة لتأطير نشاطهم وقد فعلوا ذلك بصفتهم المهنية والشخصية وليس النقابية. ولم تجد المركزية النقابية قدرة على ردعهم.

بعد هروب المخلوع وانجلاء الصورة عما يراد للثورة. تقدمت النقابة للتصعيد وأطرت اعتصامي القصبة بما أقصى جزءا كبيرا من النظام وفرض خط التأسيس لكن ظهور التيار الإسلامي في المشهد وانكشاف قوته المحتملة وقدرته على توجيه الشارع(بعد الجمعة العظيمة) كشف المزيد من الحسابات. وحددت النقابة من وقتها موقعها ضد الثورة التي يمكن أن تسمح للإسلاميين بالوصول إلى السلطة. لقد وضع اليسار النقابي الثورة بواسطة النقابة على سكة الاستئصال السياسي وهي سكة يعرفها وسار فيها طويلا مع بن علي.

النقابة ملك اليسار وحده

هذه حقيقة يهرب منها التحليل معوّما الحديث عن نقابة وطنية. وقد تصرف اليسار في النقابة على أساس من هذا التملك الحصري ملغيا كل صوت يجأر بخلاف ذلك.استعمل اليسار النقابة على هواه قبل الثورة ففاوض بها على مكاسب حزبية وشخصية ونالها مقابل قتل الاحتجاج الاجتماعي خاصة في مرحلة تفكيك القطاع العام.

وبعد الثورة أعاد توجيه النقابة لغرض حزبي وأمكن له بتأطير الاحتجاج المطلبي المنفلت إسقاط حكومة الترويكا التي يسميها حكومة الإخوان. النقابة طيلة المرحلة الانتقالية تصرف كنقابة على ملك تيار سياسي يستعملها لغاية سياسية ضمن صراعه مع عدوه الأزلي الإسلاميين وقد انتصر عليهم بإفشال حكوماتهم المتعاقبة.

وكان نقد النقابة ودورها في تمييع مطالب الثورة التأسيسية وتحويل كل الثورة إلى مطلبية فاجرة  يؤدي إلى وصم بالخونجة. فإذا لم تسر مع النقابة في ما تريد فأنت خوانجي. وهو لفظ تكفيري يساري بإمتياز.وتألف الخطاب حول قدسية الموقف النقابي وكان يؤتي باسم حشاد المؤسس لإخراس كل قلم أو لسان تجرأ على القول بأن الثورة ليست مطلبية ولا زيادات في أجور الموظفين. لكن هدف اليسار تحقق. لقد أسقط حزب النهضة بواسطة نقابة لا حول ولا قوة لإطاراتها الجهوية والمحلية وإنما القرار المركزي المملوك حصرا لليسار الاستئصالي.

وقفت الزنقة بالهارب

يقف البلد على حافة الإفلاس والانهيار الاقتصادي ويكشف التحليل الدور التخريبي لما فعله الاتحاد. فيستبق الأمين العام التحليل المؤثم لدوره بالحديث عن ثورة على الأبواب ويزيد فيدين تراخي قبضة الدولة على الشارع. فيظهر من جديد كالغيور على مطالب الشغيلة المفقرة التي تجأر من الغلاء. ويتناسى أن نقابته قد متعت شبكة الموظفين وحدهم بكم الزيادات المجحفة.

ويتناسى أيضا أن بعض قيادات النقابة  تعطل حتى الآن تصدير الفوسفات من مناجمه لغايات احتجاج سياسي عار من كل لبس أو تمويه. الخطر قادم والنقابة تستشعره وتستبق لكنها تغفل أن الأمر لم يعد بيد حزب النهضة الضعيف العاجز المرتجف أمام تكتيكات النقابة بل المواجهة الآن مع نقابة الأعراف القوية المتحكمة فعلا في مصير البلد.

لم يعد ممكنا إرهاق الميزانية العمومية بالمزيد من الأجورللموظفين وقد تجلى ذلك في الاتفاق الأخير على زيادات مخجلة. وبقى أجراء القطاع الخاص (مجال نفوذ الأعراف والحاكمة بأمرها السيدة وداد) خارج نطاق الزيادات بما يعني المزيد من التفقير.

هنا زأرت نقيبة الأعراف في وجه عباسي. وخطت له الخط الأحمر الذي يجب أن يقف عنده. فمن غير مسموح لأحد أن يشير إلى التهرب الضريبي الذي يفرغ ميزانية الدولة.غير مسموح الخوض في إضرابات في القطاع الخاص، إذ يعلن النفير عن هروب الاستثمار. غير مسموح الحديث في عقود الطاقة والملح والمناجم فهي مجال نفوذ الشركات الخاصة المدرة للثروات. هذه مطالب الثورة ولكن الاتحاد لم يرها عندما كان الشارع في ثورته يستحث على طرح الملفات الحقيقية. والعودة إليها الآن لم يعد في مقدور الاتحاد. استعمالها الآن لا يعيد للاتحاد بكارة وطنية. بل يجعلها مطالب ابتزاز ليس أكثر ستتم ترضيتها في الكواليس بشكل شخصي وحميمي.وهو تقليد معروف يمكن التدليل عليه بالثروات الشخصية للنقابيين المزمنين الذين لم يغادروا النقابة منذ دخولها. هكذا فعل بن علي معهم ومقاسم أرض عين زغوان خير دليل.

ليس للنقابة مشروع 

ينكشف أن ليس للنقابة  مشروع مع الثورة ولا بالثورة بل هي وسيلة لأمرين إسقاط الإسلاميين وقد حصل وهذا قسط اليسار الاستئصالي الساكن في النقابة والأمر الثاني تمتيع النقابيين من غير اليسار بمغانم مادية نظير السكوت على الأمر الأول والتمتيع جار.وهذه النوايا العارية تجعل الأعراف أقوى من كل احتجاج. 

لم يخسر الأعراف شيئا بإسقاط حكومة النهضة بل قدم لهم الاتحاد خدمة لا نظير لها إذا قطع الطريق على احتمال المحاسبة.الذي وإن لم يكن النهضويون جادين فيه وربما استعملوه بدورهم للابتزاز فان الوضع الآن لا يسمح حتى بذكر الكلمة التي صارت من المحرمات. لقد كانوا يرونه من عليائهم ينفذ مطلبا لا يقدرون عليه فلما أنجز المهمة وتخيَّل اتساع نفوذه بما يسمح له بالمزيد من المكاسب أمر بالوقوف عند حده ولذلك خنس الأمين العام وانصرف الحديث إلى وجهة مجهولة. 

غير أن مثل مقالتنا هذه تصير من المحرمات فنحن نتطاول هنا على الوثن التونسي الأكبر. ونعرف المفردات التي سيرد بها علينا فهم ورثة حشاد ولهم الحق ونحن سنتُّهم في أفضل الحالات بموالاة رأس المالي العميل. التخوين لغة يستعملها النقابيون بحماس. وهي لا تختلف في شيء عن التكفير السلفي لكل مخالف.

مكانة الاتحاد ودوره الوطني خط أحمر أمامنا ولكن حقوق الشغيلة خط أحمر أمام الاتحاد في صيغته الحالية. ولا يظهر في الأفق أن هناك تغييرا في سبل التفكير والتصور للعمل النقابي مادام الخلط المتعمد بين السياسي والنقابي هو قاعدة العمل التي توجه السياسيين نحو النقابة فيجيِّرون دورها لمشروعهم السياسي. واستبدال سياسي بآخر لا يغير العمل النقابي بل يعيد التموقع السياسي لصالح الأحزاب ويفرغ النقابة من دورها بما يسمح لوداد  بهامش حركة  مفتوح للاستيلاء على كل شيء. لقد اسقط النقابيون نقابتهم وخرجوا بمغنم قليل وتلك صورة من صور العبد أمام سيده.