مقالات مختارة

سجن تدمر

1300x600
قبل سبعة أعوام مررت عبر مدينة تدمر صباحا في طريقي إلى أقصى شمال شرق سوريا، كانت الشمس تسطع على تلك الأرض المشمشية، من كان مثلي يرى المكان بهدوئه لم يكن يصدق أن هناك لحظات وساعات بل أيام مرعبة، لا يمكن للجدران والغرف المظلمة أن تخفي ذلك الضجيج وأصوات السجناء وأزيز الرصاص وصراخ الجرحى؛ حيث لا صوت للموتى حينها.
 
هناك في تلك المدينة التاريخية كانت المذبحة الأشهر في "سجن تدمر" الذي دمره تنظيم داعش بعد سقوط المدينة في يده، وبذلك يتخلص نظام الأسد ومن تبقى من مجرميه القدامى من أحد أهم الشواهد على جرائمهم.

لا نلوم المراقب السياسي قبل المواطن العادي على حيرته تجاه تصرفات تنظيم داعش، فهو يقاتل معلنا أنه ضد الطغيان، ولنصرة أهل السنة المضطهدين، ولتطبيق شريعة الله، حسب مفهوم قادته، ويتمكنون بفضل وحشية وقسوة وعناد جحافله من إلحاق الهزيمة بخصومه، خصوصا قوات المليشيات الشيعية ومن يدعمهم، ثم يحتل نصف البلاد السورية الشرقية، معلنا أن هدفه إسقاط نظام الأسد، ثم يترك مخارج على الأرض تمكن نظام الأسد من لملمة مقاتليه، وإعادة تموضعه في مناطق أخرى، وأخيرا يدمر سجن تدمر الذي يلقب بسجن "باستيل" النظام العلوي الأسدي.

إن سجن تدمر لا يغيب عن ذاكرة السوريين من الجيل القديم ولا عن الرعيل الثاني من أبناء الإخوان المسلمين، فهو "قلعة جهنم" التي قتلت فيها قوات الرئيس الراحل حافظ الأسد وقوات شقيقه رفعت الأسد" سرايا الدفاع" أكثر من ألف سجين في السجن سيئ الصيت، تم اعتقالهم بعد فشل عملية اغتيال حافظ الأسد، حيث وجه الأسد وحاشيته العسكرية والأمنية الاتهامات لجماعة الإخوان المسلمين آنذاك، وقاموا خلال السنوات 1980 و1981 و1982 بارتكاب فظائع ضد الخصوم السياسيين، خصوصا جماعة الإخوان المسلمين، في مدينتي حلب وحماه شمال سوريا.

وبعكس سجن "المزه" في ضواحي دمشق الغربية، فإن الموت في "تدمر" لا يشبه الموت في مكان آخر، فكانت 12 مروحية عسكرية حطت في مطار تدمر العسكري، وتقل على متنها عشرات الضباط المتوحشين، كافية بإبادة جماعية لسجناء متهمين بالتآمر على شخص الرئيس، ودون أي محاكمة أو سؤال، دخل "القبضايات العسكريون" إلى السجن وفتحوا النار على المهاجع، وفجروا عددا من السجناء الذين اعتبروا من القيادات، وتم نقل رفاتهم وجثثهم إلى مقابر في الصحراء الشاسعة، ولم يعرف أحد ما جرى هناك.

في حماه "أم النواعير" ارتكبت أبشع جريمة لنظام حاكم ضد الشعب، حيث حاصر جيش حافظ الأسد المدينة، كقبضة أطبقت على نملة، فدكت الدبابات المدينة بقذائفها، وأطلقت المروحيات صواريخها بكل اتجاه، قبل أن تدخل قوات "سرايا الدفاع" لترتكب المجازر ضد المدنيين العزل.

 وكان العالم حينها نائما في ليله الطويل، دون إعلام ولا بث مباشر من هناك، وهرب الآلاف من العائلات إلى المناطق المجاورة، وفرّ عدد من قادة الإخوان إلى المدن الأخرى، ووصل عدد كبير منهم إلى الأردن، حيث سمح الملك الراحل الحسين بن طلال بحمايتهم، وتسبب ذلك بقطيعة مع نظام الأسد وحرب باردة ضروس، تكللت بمحاولة فاشلة لاغتيال رئيس الوزراء الأسبق مضر بدران لدعمه الجماعة، واعتقل عدد من المتورطين، حيث كشف ثلاثة منهم حينها عن مجازر الأسد، خصوصا مجزرة سجن تدمر، ليعرف العالم حينها بشاعة ذلك النظام.

مرت السنون وئيدة على الشعب السوري، ونشأ جيل مرعوب من الأبناء والأحفاد، وركز الأسد على ترويض كل خصومه، وتثبيت أركان قيادته بواسطة قادة عسكريين ومخابراتيين عتاة، وجعل من دمشق حديقة للضباط الكبار، فيما أهملت التنمية في شرق سوريا، وأصبح الشعب عبارة عن عمال وفلاحين لا طريق أمامهم سوى رفد الاقتصاد بالمنتجات الزراعية والمنتجات الصناعية، ولم يسمح لأحد منهم أن يقرر ماذا يفكر، فالأطفال ينشأون في مراكز " طلائع البعث"، والرجال يهتفون بحياة الرئيس الذي لا يموت، فلا حياة سياسية، ولا منابر ديمقراطية، والثروات تتمركز بأيدي القادة الكبار وأصهار العائلة.

ومنذ "عام حماة وتدمر" لم يستطع ملايين السوريين رفع أصواتهم فوق صوت قيادة دمشق، مع أن مشاهداتي عبر الأراضي السورية الشرقية في السنين الخوالي تثبت أن البلاد السورية الشرقية ساقطة عسكريا، حتى انفجر بركان الثورة، ولا تزال أربع سنوات مضت وخامستها تدخل، ونظام الأسد يقارع في دمشقه ولاذقيته، وما كان له أن يصمد لو أن الدول العربية المعنية بالصراع اتفقت على خطة محكمة للخلاص من النظام العلوي، الذي عاد إلى أصله ليفجر المدن بالبراميل المدمرة، ولهذا كان الأجدى لو بقي سجن تدمر إثباتا على جرائم النظام، لا أن يفلت زبانيته من العقاب قبل أن تسقط دمشق قريبا.




(نقلا عن صحيفة بوابة الشرق)