كتاب عربي 21

الأزمة في صفوف الإخوان المسلمين

1300x600
ثمة أزمة تتفاعل في الداخل الإخواني المصري، توصف أحياناً بصراع الأجيال، وفي أحيان أخرى بالخلاف على استراتيجية العمل في مواجهة نظام 3 تموز/يوليو 2013.

ولأن الجماعة تواجه حملة اجتثاث غير مسبوقة منذ عامين، تصور البعض، لاسيما من خصوم الإخوان، أن الأزمة ليست سوى مؤشر على نهاية مسيرتها الطويلة. الحقيقة، أن هذه أزمة طبيعية ومتوقعة، ولا مناص منها، وأن نعي الجماعة التي مضى على وجودها زهاء القرن، وكانت طرفا أساسيا في كل التحولات الكبرى في تاريخ مصر الحديث، نعي مبكر، ومبكر جدا.

كما كل قوى التيار الإسلامي السياسي، برز الإخوان المسلمون بعد الثورة المصرية باعتبارهم قوة الثقل الرئيسية في الساحة السياسية. كان الإخوان طرف الحوار الأهم والأكثر تأثيرا مع المجلس العسكري، الذي تولى مقاليد الحكم بعد إطاحة مبارك، وحققوا فوزاً كبيراً في انتخابات مجلس الشعب (البرلمان المصري) الأول (والأخير) بعد الثورة، وبعد تردد طويل، خاض الإخوان الانتخابات الرئاسية، ليصل د. محمد مرسي بعدها إلى مقعد رئاسة الجمهورية. ولكن الثورة المضادة كانت بالمرصاد، ليس فقط للإخوان المسلمين، ولكن أيضاً، وأساساً، لمسيرة التحول الديمقراطي في مصر.

حل مجلس الشعب بقرار قضائي غريب وغير مبرر، ووقفت قوى الدولة المصرية وانقسم معسكر الثورة في وجه محاولة الرئيس المنتخب لإعادة المجلس للانعقاد. وبعد أقل من عام على توليه مهامه الرئاسية، وبغض النظر عن الجدل حول درجة تحكمه الفعلي بمقاليد الحكم والدولة، أطيح بأول رئيس مدني، منتخب، للجمهورية، بقوة الجيش ومؤسسة الدولة، وفي ظل انقسام شعبي حاد، وتأييد صريح ومنقطع النظير من دول عربية خليجية. بمعنى من المعاني، ولأن الإخوان كانوا الجهة التي أفادت أكثر من غيرها من الثورة وانطلاقة مسيرة الانتقال الديمقراطي، أصبحوا الجهة الأكثر خسارة من الانقلاب على الثورة وقطع المسيرة الديمقراطية. ولكن هناك ما هو أسوأ.

أدرك صناع انقلاب 3 تموز/يوليو، ومن وقف معهم في الجوار العربي، أن الإخوان هم القوة السياسية الوحيدة التي يعتد بها في الساحة المصرية، وأن لا سيطرة حقيقية لهم على الحكم دون اقتلاع الإخوان.

وبدأت بالتالي حملة إبادة لم تعرفها مصر من قبل، حتى في أشد مراحل الصدام بين الدولة المصرية، الملكية أو الجمهورية، والجماعة. طورد المئات من كوادر الإخوان إلى المنفى، اعتقل الآلاف وتعرضوا لمحاكم صورية، أصدرت، ولم تزل، أحكام سريعة وغير مسبوقة، قتل العشرات من أعضاء الجماعة في الشوارع أو تحت التعذيب وفي ظروف الاحتجاز البشعة، صودرت أموال وأعمال المئات من أعضاء الجماعة أو المتعاطفين معها، طرد الآلاف من موظفي الدولة ومؤسساتها المشتبه بعلاقتهم الإخوانية، أو نقلوا من مواقعهم، وأغلق المئات من المدارس والمستشفيات وجمعيات العمل الخيري والمدني، التي يمتلكها أو يديرها أعضاء في الجماعة أو متعاطفون معها. في مثل هذا المناخ من الانقلاب السريع والمفاجىء في مقدرات الجماعة، في دورها وموقعها، لم يكن غريباً أن ينفجر نوع من الجدل الداخلي، وأن يتطور هذا الجدل إلى ما يشبه التأزم الداخلي.

بيد أن صورة الأزمة تبدو أكبر بكثير من حقيقتها. هناك بلا شك شيء من الخلاف في صفوف الإخوان حول ما إن كان من الأجدى المضي نحو خيار المصالحة مع النظام وتقليل حجم الخسائر، أو مواصلة النشاطات الثورية المعارضة إلى أن يبرز توازن قوى جديد. ويتعلق هذا الخلاف بخلاف أعمق حول تقدير ماهية الدولة المصرية وحقيقة ما حدث في 3 يوليو/ تموز، وما إن كان من الممكن للمصريين في المستقبل تحقيق حريتهم وتوكيد إرادتهم في الحكم، دون تغيير جوهري في بنية الدولة المصرية.

ولكن، ومهما كان الخلاف هنا، فالواضح، ومنذ الأسابيع الأولى للانقلاب، أن قادة النظام الجديد هم من سيقرر فرص المصالحة وأبعادها، وليس رغبة الطرف المقابل، لاسيما وأن النظام لم يغلق باب المصالحة الوطنية الشاملة وحسب، بل وتخلى عن، وأبعد، حتى الكثير من شركائه الأوائل من غير الإخوان وغير الإسلاميين. وهناك، إضافة إلى ذلك، شيء من تصادم، أو افتراق الأجيال، بين قيادات نشأت وعاشت في مناخ إصلاحي، تساومي وبراغماتي، وكوادر وسيطة وشابة جعلتها تحولات السنوات الأربع الماضية أكثر جذرية. ولكن، وقبل هذا وذاك، فليس ثمة شك أن انتخابات مطلع هذا العام، داخل مصر وخارجها، ولدت حالة من التدافع على موقع القرار.

بيد أن هذه هي القوة السياسية الأقدم في تاريخ مصر الحديث، القوة الأعمق جذوراً، والأكثر انتشاراً في المجتمع المصري، بفئاته وطبقاته كافة. الإخوان اليوم، وبصورة تفوق أية مرحلة سابقة في تاريخهم، هم العمود الفقري للجماعة الوطنية المصرية، هم مستودع قيمها، وحارس وجودها واستمرارها.

ويكفي أنهم والمتعاطفين معهم أو المؤيدين لوجهة نظرهم لا يزالون يخرجون إلى الشارع بعشرات الآلاف، يومياً وأسبوعياً، في مدن البلاد وقراها، لتوكيد معارضتهم للنظام، في حراك لم يعرف له تاريخ مصر الحديث مثيلاً. 

كما في حالات مواجهة سابقة مع الدولة المصرية، يتعرض الإخوان اليوم لحملة شيطنة تقودها أجهزة رسمية، وتشارك فيها مؤسسات إعلام وصحافة، رسمية وغير رسمية، كما أجهزة نيابة وقضاء وأمن.

ولكن، وكما في السابق، فإن حالة الانقسام الشعبي، التي سمحت لهذه الحملة أن تحقق بعض المكاسب، لن تطول. شيئاً فشيئاً، سيدرك المصريون أن الإخوان لم يكونوا هم الهدف الأولي لما تعرضت له بلادهم في 3 تموز/يوليو 2013، وأن ذنب الإخوان الرئيسي أنهم القوة السياسية الأكثر تجذراً وصلابة والأكبر حجما.

الهدف، كان عملية التحول نحو الحرية والديمقراطية برمتها، التي لم تستطع أجهزة الدولة تقبلها أو الخضوع لمسارها، وأن البديل الذي استعاد السيطرة على مقاليد الحكم ومقدرات الدولة، في الحقيقة، ليس سوى القديم ذاته، القديم الذي سيطر على الحكم والدولة طوال أكثر من قرن قبل ثورة كانون ثاني/يناير، وأن لا مفر أمام المصريين، إن أرادوا مستقبلاً أفضل لأبنائهم، من تجديد إيمانهم بقدرتهم على التغيير وفرض إرادتهم على مؤسسة الدولة ونظام الحكم.

ولدت جماعة الإخوان المسلمين في نهاية العشرينيات من القرن الماضي؛ ولكنها لم توجد من البداية كقوة سياسية. فقط في نهاية الثلاثينيات، أصبحت الجماعة طرفاً في الساحة السياسية، في وقت احتدم خلاله الصراع على مستقبل مصر وتوجهها.

تطورت الجماعة سريعاً لتتحول إلى واحدة من أكبر تجليات الإحياء الإسلامي، وأكثرها فعالية. وعلى الصعيد السياسي، لم تكد تمر مصر بمنعطف واحد في تاريخها الحديث، منذ نهاية الثلاثينيات، دون أن يكون الإخوان طرفاً فاعلاً في تحديد مسار البلاد وتوجهها. لم تنبع قوة الإخوان الدافعة وقدرتهم على البقاء في مواجهة رياح القرن العشرين العاتية من حجم التنظيم أو تماسكه، ولا من دعم طبقات داخلية نافذة أو قوى إقليمية مؤثرة.

قوة الجماعة الحقيقة أنها لم تولد من مسودة مسبقة، ولم تخضع لرؤية إيديولوجية مصممة، بل ظلت دائماً قادرة على إعادة بناء نفسها، بدبنامية بالغة، في ظل المتغيرات الموضوعية التي أحاطت بمسيرتها. وما نراه اليوم من حالة تأزم، ليست سوى لحظة كشف ضرورية أخرى في مسيرة الوعي بالذات والدور والموقع، وإعادة بناء الرؤية من جديد.