كتاب عربي 21

وأسفاه على النخبة

1300x600
إرجع إلى كل مشكلة، وتقصَّى عن كل أزمة، وإبحث في كل فكرة متطرفة. وسياسيا واجتماعيا عصفت بليبيا أو بجزء منها خلال الأعوام الثلاثة الماضية فستجد خلفها "نخبوي" محسوب على أهل الثقافة أو الرموز الفاعلة في المجتمع الصغير والكبير. من المجلس الانتقالي إلى المؤتمر الوطني إلى البرلمان، كان المسار السياسي تعسفيا في تحوله، والانتقال محتقن في حراكه وذلك لأن ضغوطا مارستها "النخبة" بمختلف جذورها الفكرية والسياسية والاجتماعية ساهمت بشكل مباشر في إرباك المسار.

فقد نجحت النخبة في أن تصنع تيارات فكرية وسياسية تصادمت مع مقاربة الانتقال الديمقراطي، وأصابت التحول إلى الدولة في مكمن المراحل المبكرة من التحول. لم أكل أو أمل عن تنبيه النخبة على دورها الريادي الحيوي لاستثمار الثورة، وتحويلها إلى لحظة تحول تاريخي من خلال تيسير الانتقال إلى مرحلة الدولة بحكمة وروية، ولم أكل أو أمل في تحميل النخبة الليبية المسؤولية عن الانحدار في مسار التغيير بعد الثورة. لكن شطحات المبرزين وصراعهم المبكر قاد إلى اتجاه معاكس للبناء وسهل الانحدار إلى الفوضى.

نعم يرافق الثورات اهتزازات وانعطافات حادة بلا شك وذلك لأسباب تعود للتاريخ والجغرافيا والسياسة والاجتماع والثقافة التي تشكل منظومة القيم والإدراك لدى مجموع الثائرين، وترجع إلى صراع المصالح والنفوذ بين القوى القديمة والجديدة، وليبيا تتسم في هذا بسمات خاصة كان لها بصمتها القوية على المشهد بعد الثورة، لكن كان المرجو من النخبة أن تلطف من حدتها وتحتوي شدتها، وليس العكس.

إن المطلوب من النخبة التوافق على خيار آمن ثم الدفاع عنه بقوة ومنع الانقلاب عليه إلى أن تصل السفينة إلى بر الأمان باكتمال المؤسسات الدستورية واستيفاء شروط الانتقال الصحيح.

الغلو الديني والنزوع الجهوي والتعصب القبلي والانيحاز الحزبي التي تفشت خلال الثلاث أعوام المنصرمة وأصبح لها امتدادات في البلاد تعود إلى تسويق نخبوي وغلو ونزوع وتعصب وانحياز من قبل من يحسبون على العلم والمعرفة والثقة والثقل الاجتماعي والاقتصادي، والأمثلة بينة والشواهد عديدة.

ومع كل مرحلة جديدة من التأزيم السياسي والأمني يبرز دور نخبويين، ومع كل طور جديد من التشرذم والتشظي في البلاد تجد في الواجهة شيخ أو مثقف أو سياسي أو المحسوبين على الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية، والجميع يصنفون ضمن دائرة النخبة.

الدماء تسيل بغزارة والأوراح تزهق بالعشرات في كل يوم، ودمار يعم وخراب بكافة صنوفه ينتشر والنخبة لا تخجل من تبريره بل وتحرض على أن لا يتوقف النزف والخراب دون أن تنظر إلى العواقب.

المفارقة المؤلمة أنك لو رجعت إلى سقف المطالب القديمة والجديدة لوجدت أن المطالب في تراجع وسقفها إلى انخفاض، بمعنى أن التعنت لم يحقق المطلوب، بل تتجه النخب، ومن خلفها ممن تم استغفالهم من عموم الناس، إلى قبول أقل مما رفعت عقريتها من أجله وشحذت سلاحها للاقتتال لبلوغه، والكارثة أن تراجع سقف المطالب جاء بعد إزهاق آلاف الأرواح ودمار مادي كلفة إعماره عظيمة، وخراب اجتماعي ستبقى أثاره عقودا وربما قرون.

التقيت ببعض الرموز البارزة جدافي المشهد السياسي الليبي عام 2012م، وكان التأزيم بين التيارين الرئيسيين في البلاد يأخذ مداه، وطلبت منهم الجنوح إلى التوافق وحذرت أن الاستمرار في الصراع لن يهدد استقرار البلاد وحسب، بل سيحرمهم هم من أن يجدوا "مترين" من الأرض لتكون مكانا لقبورهم، وهو ما نشاهده اليوم من واقع مرير، لكن الأمل موجود والفرصة قائمة، والمطلوب فقط قليل من الحكمة وشيء من الإخلاص.

تفكيك سلطة النخبة الأدبية يكون من خلال رفع درجة وعي الرأي العام من خلال توسيع مدراك شرائح عدة داخل المجتمع، ومن الشباب تحديدا، ليتحملوا مسؤوليتهم في تفسير مجريات الأحداث بمنطق وحكمة واعتدال ورفض مظاهر التعصب والنزوع والانحياز للمنطقة والقبيلة والحزب والفئة لصالح مشروع وطني، عندها سيتحقق التوازن ويكون للنخبة دورها الإيجابي الذي يتفاعل مع حراك المجتمع، ويسهم في تطويره ولا يكون هو المهيمن عليه.