ما أكثر التحليلات والآراء بعد توقيع الاتفاق الخاص ببرنامج إيران النووي، ولست معنيا الآن بمناقشة الاتفاق ونتائجه المتوقعة بقدر النظر إلى الأمر من زاوية أكثر أهمية من وجهة نظري؛ أي موقع ومستقبل إسرائيل، التي بلا ريب فقدت أعصابها وجنّ جنونها من هذا الاتفاق.
والجنون الإسرائيلي ليس فقط نابعا من مخاوفها وهواجسها الأمنية التي لا تنتهي، فإسرائيل تعرف أن حصول إيران على قنبلة نووية من دولة مثل كوريا الشمالية بإغراء مالي ليس مستحيلا، ولكن إسرائيل غاضبة من شعورها أن مرحلة جعل رغباتها ومطالبها هي الفيصل والمحدد والمعيار الأهم في سياسات الدول الغربية والدول الكبرى في المنطقة.
لقد قامت الحركة الصهيونية في الغرب بدعم وتشجيع من أوروبا أواخر القرن التاسع عشر، وتبنت بريطانيا خاصة تنفيذ مشروع الوطن القومي لليهود على أرض فلسطين، واستخدمت بريطانيا كل الوسائل الإجرامية القذرة لزرع هذا الكيان في المنطقة، وفي ذروة الحرب العالمية الثانية احتضن هاري ترومان هذا المشروع وسار من بعده من رؤساء الولايات المتحدة على ذات الدرب، وصارت إسرائيل الابن المدلل للأمريكان، وحالة غربية سرطانية في داخل بلاد العرب والمسلمين.
واستطاع اليهود الصهاينة إنشاء جماعات ضغط (لوبيات) في أمريكا وسائر بلاد الغرب تضمن استمرار دعم الكيان العبري وإضعاف العرب والمسلمين، وجعل كل سياسات الدول الغربية خاضعة تماما لنزوات قادة الكيان العبري، وضرب الغربيون مصالح مئات الملايين من العرب والمسلمين عرض الحائط، من أجل بضعة ملايين يهودي يعيشون فوق أرض اغتصبوها بقوة السلاح والدعم الغربي غير المسبوق، وكان الرئيس العراقي السابق صدام حسين قد سأل أبريل غلاسبي سفيرة الولايات المتحدة في بغداد إبان أزمة الكويت عن طريقة تفكير أمريكا التي تتجاهل 300 مليون عربي من أجل مصلحة 4 ملايين إسرائيلي.
وكانت إسرائيل حارسا وفيا للمصالح الكولونيالية الغربية في المنطقة، هذه المنطقة التي تستحوذ على أكبر مخزون من النفط في العالم، وفيها قناة السويس أحد أهم ممرات التجارة العالمية؛ فإسرائيل استطاعت وحدها هزيمة العرب مرة تلو مرة، وأجبرتهم على القبول بها والسعي للسلام معها مقابل استعادة جزء صغير من الأراضي التي تغتصبها، ولم يلزم الغرب إرسال جيوشه سنة 1967 إلى المنطقة لأن إسرائيل قامت بعملية (التأديب والإخضاع) بجيشها المسلح من الغرب.
ولكن الأحوال تبدلت وصارت إسرائيل حملا زائدا على من أنشأها ومدها بالمال والسلاح والتكنولوجيا وصار الغرب مضطرا كل مرة أن يأتي بجيوشه الجرارة لتأمين إسرائيل واحتلال العراق وتأمين ما يراه مصالح له، فصارت خسارته مضاعفة بما يقدمه لإسرائيل من دعم كبير جدا،و التي يفترض أنها كلب الحراسة الشرس للغرب، وليس العكس، إضافة إلى دفعه أكلافا باهظة بشريا وماديا.
وأثبتت حرب غزة صيف العام 2014 أن إسرائيل لم تعد تستطيع التقدم، بل هي في تقهقر مستمر؛ فمع كل ما تمتلكه من سلاح وعتاد وجيش عرمرم ودعم سياسي حتى بعض العرب قدمه لها، لم تستطع إخضاع شريط ساحلي ضيق مكتظ سكانيا ومحاصر منذ بضع سنين، بل صار جنودها وضباطها أشبه بالبط في مرمى رجال المقاومة الفلسطينية، والوصف من شهادات الجيش الإسرائيلي نفسه، وما تفوقت فيه هو قتل المدنيين وإبادة عوائل كاملة وتدمير الأبراج السكنية والبنى التحتية، فيما صارت مدنها الكبرى والصغرى هدفا لصواريخ المقاومة، في الوقت الذي يعود فيه جنودها وضباطها إما في التوابيت أو على كراسي متحركة، أو إلى المصحات الخاصة بعلاج الأمراض النفسية...وأنا أزعم أن حرب غزة كانت محطة فاصلة في تعاطي الغرب مع ملفات المنطقة جميعها، بما في ذلك ملف إيران النووي!
وبغض النظر عن رفضنا المبدئي للعديد من السياسات الإيرانية في العراق وسورية واليمن وغيرها، ونبذنا لكل ما ظهر في السنوات الأخيرة من جشع وطمع إيراني مغموس بدوافع قومية وطائفية في بلدان المنطقة العربية؛ فإن إيران استطاعت أن تبني ذاتها رغم الحصار والمقاطعة، وأن تناور صعودا وهبوطا، وتوظف كل الأوراق لتثبيت نفسها كقوة ودولة صاحبة كلمة مسموعة في منطقة مضطربة، للغرب فيها مصالح لا يستطيع التنازل عنها.
والغرب صار ينظر للكيان العبري كعبء زائد عليه، ويستشعر أن الخسائر من وجوده أكثر بكثير من الأرباح، على مختلف المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية والأخلاقية؛ فإضافة إلى عجز إسرائيل المسلحة حتى أسنانها بأكثر أنواع السلاح والعتاد والتقنيات الحديثة فتكا وتطورا عن حسم أي معركة منذ سنوات، فقد علت أصوات أكاديمية وشعبية ونقابية في البلاد الغربية ترفض بشدة ممارسات إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، وتدعو إلى مقاطعتها أكاديميا ومقاطعة بضائع مستوطناتها، وإن كانت الدعوات والخطوات المصاحبة لها ما تزال غير مؤثرة كفاية على صانع القرار السياسي في تلك البلاد لأسباب معروفة؛ والغرب الذي فكك نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقية ولجم وحوش الصرب، وبنى منظومة حقوق إنسان جيدة، هو من أقام إسرائيل ورعاها وغطى على كل جرائمها وفظائعها، وهذا وضع لم يعد مريحا لنخبه وعامة شعوبه، كما أن إسرائيل سببت وتسبب للغرب مشكلات أمنية وصلت إلى عقر داره، والعلاج الأمني والعسكري لها باء بالفشل، كما ثبت بالدليل العملي بعيد أي حدث فوق الأراضي الغربية.
وفي الوقت الذي يأتي وزير الاقتصاد الألماني إلى إيران برفقة وفد من رجال الأعمال، فإنه بلا شك يعي تماما بأن إسرائيل مارست الابتزاز مع دولته وشعبه طوال العقود الماضية وحتى العام 2013 كانت قد ابتلعت من أموال ألمانيا 70 مليار دولار، وهو الآن في إيران سيجني أرباحا قائمة على الشراكة الطبيعية والمنفعة المتبادلة، لا منطق الابتزاز والمظلومية المملة الذي تعاملت به إسرائيل...أضف إلى ذلك ما تنهبه إسرائيل من خزائن المال والسلاح الأمريكي دون أن يعود هذا حاليا بفائدة إستراتيجية تذكر على الولايات المتحدة الأمريكية، ولولا اللوبي الصهيوني، والتيار الأنجلوساكسوني المتطرف ما استمر هذا الوضع.
وبذهاب الغرب إلى توقيع الاتفاق النووي مع إيران إعلان شبه صريح إلى أن زمن تدليع إسرائيل المستمر قد انتهى إلى غير رجعة، نظرا إلى أن الاتفاق أخذ بمبدأ المصالح المشتركة بين الغرب وإيران ولم يخضع إلى عقلية تدليع إسرائيل والخضوع لهواجسها الأمنية ورغبتها بأن تستحوذ هي على كل شيء وغيرها عليه الخضوع والاستسلام، وأن ترسم وحدها سياسات وخرائط المنطقة وألا يكون لغيرها دور إلا وفق الهامش الضيق الذي تحدده.
ولكن هل فعلا انتهى تدليع إسرائيل بتوقيع هذا الاتفاق أم أن الاتفاق نفسه يعتبر تدليعا لها من قبل الغرب، للحفاظ على أمنها، بضمان عدم امتلاك إيران سلاحا نوويا من جهة وتوظيف القوة الإيرانية لمواجهة خطر ما يسمى الإرهاب وتنامي نفوذ الجماعات الجهادية التي تشكل خطرا مستقبليا متصاعدا على إسرائيل وتقترب يوميا من حدودها؟وهذا رأي يتداوله بعض المراقبين بكثرة، والحقيقة أن ثمة ملاحظات عدة على هذا الطرح منها:-
1) قلنا بأن امتلاك السلاح النووي بحد ذاته ليس مشكلة في عصرنا، بل إن الاتفاق قد يدفع السعودية مثلا لبناء برنامج نووي بالتعاون مع باكستان أو غيرها، وهذا يعني ضمنا عدم احتكار إسرائيل لهذا النوع من الأسلحة.
2) ثبت من خلال المواجهات والحروب التي خاضتها إسرائيل منذ 2006 حتى 2014 أن التصدي لإسرائيل ومراكمة نقاط ضعفها وصولا إلى دحرها وتفكيكها ليس مرتبطا فقط بامتلاك أسلحة نووية، فتنظيمات مسلحة بأسلحة خفيفة ومتوسطة تمكنت من الإثخان في جيشها ومستوطنيها، وشل الحركة في معظم مدنها الكبرى.
3) دوائر الغرب الاستخباراتية تعي وتدرك أن لإيران نفوذا واختراقا داخل المنظمات والمجموعات الجهادية بمستويات مختلفة، وهو ما ليس لإسرائيل بذات الدرجة والحجم الذي لإيران.
4) إيران دولة وشعب ليست طارئة على المنطقة بل هي من مكوناتها تاريخيا وثقافيا، بعكس إسرائيل، والخلاف مع إيران بسبب سياسات ومواقف، الزمن والتطورات الميدانية والموضوعية كفيلان بتغييرها ولجم غلوائها، بعكس إسرائيل الشاذة في كل شيء ولا علاقة لها بالتكوين الثقافي والاجتماعي والتاريخي للمنطقة، وهذا أمر أدركه الغرب منذ رعى الحركة الصهيونية، ولكنه تصدى له بوحشية السلاح، والتحالف مع النظم الاستبدادية، وهي أمور لم تعد صالحة في زماننا بعد التطورات في المنطقة.
5) ليس بمقدور إيران التمدد أكثر وهي بما قامت به من انتشار خارج حدودها عبر قواتها مباشرة، أو عبر وكلائها تعرض نفسها للاستنزاف، وعمليا هي قامت بذلك لتحقيق مصالح خاصة بمشروعها وطموحاتها، وليس لتحل محل إسرائيل في تفكير الغرب الإستراتيجي.
والإفراط في التفاؤل خطأ، فما زال اللوبي الصهيوني مؤثرا، والجمهوريون يستعدون للعودة بشراسة وقوة إلى الحكم في واشنطن، والمال اليهودي له سطوته وتأثيره الواسع، كما أن انفجار الاتفاق والعودة إلى نقطة الصفر أمر وارد، لأسباب مختلفة، ناهيك عن سعي إسرائيل الدؤوب إلى الحصول على مزايا جديدة تعويضا أو ترضية لها من الغرب لقبوله توقيع اتفاق يضمن لإيران استخدام الطاقة النووية...ولكن ومع كل ذلك، فإن حالة الدلع التي حظيت بها إسرائيل بحيث لا يقال لها صراحة: لا، قد انتهت والمرحلة القادمة ستبرهن على هذا.