كتاب عربي 21

رابعة.. مجزرة الضرورة

1300x600
1-
ذهبت إلى النوم مساء يوم 13 أغسطس 2013 حتى أكون مستعدا للمشاركة في مؤتمر صحفي سيتم فيه إعلان برنامج للعدالة الانتقالية، يحاسب على جرائم الماضي أيا كان مرتكبوها، ويجنب مصر كثيرا من الدم، يمكن أن يُراق إذا ما تُركت الخيارات الأمنية تأخذ مجراها في غياب الحلول السياسية.

كانت أنباء قد وصلت إليّ عن نية قوات الأمن فض اعتصام رابعة العدوية فجر الغد، لكنني لم أصدق أن هذا قد يحدث، أولا لأن أنباء مماثلة ترددت أكثر من مرة ولم يحدث شيء، ثانيا لأن مسؤولين كبار في رئاسة الجمهورية أكدوا لي أنه لا نية إطلاقا للفض بالقوة وأنهم يدعمون تطبيق العدالة الانتقالية كحل آمن للأزمة، يتم من خلاله إدماج أفراد الإخوان والتيارات الإسلامية في الحياة السياسية، ما لم يتورطوا في جرائم جنائية، مع محاسبة كل من يدان بالقتل أو الفساد خلال حكم الإخوان ومبارك والفترة الانتقالية الأولى، وثالثا لأن وزير الداخلية السابق أكد في لقاء مغلق بممثلي المنظمات الحقوقية عشية التاسع من أغسطس أن الفض سيكون له ضحايا كثيرون في الطرفين، وأن غاية ما يمكنه فعله تأمين مداخل الميدان عن بعد لضمان عدم تسرب أسلحة إلى داخل الاعتصام.

بعد ساعات قليلة استيقظت على خبر فض الاعتصام، شاهدت الصور الأولى على تليفزيون الدولة وعلى مواقع وصفحات الإخوان، وتأكدت أن الأمر خرج عن السيطرة، قوات الأمن تقتل أي إخواني في محيط الاعتصام، والإخوان يقتلون أي فرد أمن يصادفونه في مناطق نفوذهم، تلقيت اتصالا من صحفي يسأل عن موعد عقد المؤتمر، قلت له: "انس الأمر، لا مؤتمر سيعقد، ولا عدالة انتقالية ستنجز، والقادم دماء وفقط".

سألت نفسي عن الذي تغير في عدة أيام بين تأكيدات المسؤولين أن الفض ليس هو الطريقة المثالية للحل وفض الاعتصام بهذه الوحشية، هل اقتنع المحيطون بالرئيس المؤقت وهم أساتذة في العلوم السياسية وخبراء بتجارب السابقين بأن العنف قد يولّد أمنا، أم إن أحدا لم يأخذ أصلا رأيهم في الفض؟ هل كانوا مضلِلين بكسر اللام أو مضلَلين بفتحها؟ وهل نسي وزير الداخلية كلامه عن الضحايا الكثيرين الذين سيسقطون من الطرفين وعدم استعداده للمحاسبة عن ذلك، أم إن هناك من أعطاه الأمان؟

2-
في 11 أغسطس 2013 أي قبل الفض بثلاثة أيام، قالت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية إنها حصلت على تفاصيل الخطة المصرية لفض اعتصام الإخوان في ميدان رابعة، وأشارت الصحيفة التي كانت وقتها مقربة بشدة من المسؤولين الجدد، إلى أن خطة القادة المصريين التي سيجري تنفيذها خلال 48 ساعة تركز على فض الاعتصام بشكل تدريجي عن طريق قطع المياه والكهرباء والإمدادات الغذائية عنه، وليس بالهجوم المباغت أو الضربة الواحدة، وذلك تجنبا لوقوع عدد كبير من الضحايا.

وأوضحت الجريدة نقلا عن مصادرها المطلعة داخل الحكومة، أن وزارة الداخلية قدمت تقارير بعد أن كلفها مجلس الوزراء بفض اعتصام رابعة تبين فيها أن عملية الفض ستؤدي لخسائر كبيرة في الأرواح، يمكن أن تؤثر على سمعة البلاد، وأنها تتوقع أن يتراوح الضحايا بين 3 و5 آلاف في حالة الفض بالقوة.

كان هذا هو صوت العقل داخل نظام 3 يوليو، لكن صوت القوة كان أعلى، الصوت المدني داخل النظام كان منسحقا تماما أمام الصوت العسكري الذي يدير من خلف الستار، يعرف الطريق الصحيح لكنه لا يمانع السير في الطريق الخطأ، ولا يكتفي بالسير بل يدافع بشدة عن قرار ليس قراره، وقناعة تتناقض مع قناعاته.

قيادات هذا المعسكر خاطروا بإدخال الوطن في نفق من العنف والعنف المضاد؛ ليثبتوا للناس أن الثورة لم تأت إلا بالخراب، وأن الإخوان يمكن أن يختفوا من الوجود، وأن الجنرالات وحدهم قادرون على حمايتهم من الأشرار.

على الجانب الآخر، كان الإخوان يعرفون تماما طبيعة النظام الجديد الذي لا يتسامح مع أي أحد يهدد مقعده، وكانت تصل إليهم إشارات ومعلومات عبر وسطاء بأن صوت الفض داخل النظام سينتصر لا محالة لأنه الصوت المدعوم بالسلاح.

لم تعد هذه تخمينات ولا تحليلات، لكنها باتت حقيقة أثبتها حمزة زوبع المتحدث الإعلامي لحزب الحرية والعدالة بالصوت والصورة حين قال قبل أيام: "كنا نعلم أن الاعتصام لن يرد محمد مرسي إلى منصبه، وقد يسأل البعض لماذا كنتم تقولون للناس في الاعتصام (مرسي سيعود غدا أو بعد غد)؟ لأنه كنا نريد أن نصل إلى نقطة التفاوض".

دماء وحياة عشرات الأطفال ومئات النساء وآلاف المعتصمين كانت ورقة تفاوض سياسية رخيصة تستخدمها الجماعة للضغط على النظام، كان وزراء الإخوان ونجوم منصتهم يكذبون على الناس (الذين تحول مئات منهم إلى شهداء بعد ساعات) بالتأكيد على أن اعتصامهم سيعيد مرسي إلى القصر، فقدموا أجساد أنصارهم قربانا لمظلومية تطيل عمر التنظيم.

كل من في السلطة وقتها كانوا يعرفون أن استمرار الاعتصام لن يغير أي شيء على الأرض، لكن فضه بالقوة سيجر البلاد إلى موجة غير مسبوقة من العنف، كل قيادات الإخوان كانوا يعرفون أن الاعتصام لن يعيد مرسي إلى السلطة، لكن فضه بالقوة سيخلف مئات الشهداء، ورغم ذلك أصر قيادات الإخوان على استمرار الاعتصام، وأصر أصحاب القرار في النظام الجديد على فضه.

سالت الدماء في رابعة لأن طرفي النزاع كانا يرغبان بشدة في ذلك، حكام جدد يريدون تثبيت دعائم حكمهم، وحكام مخلوعون يخافون انفراط عقد أنصارهم، وهذا لن يحدث للطرفين سوى بمجزرة، يستخدمها النظام في تخويف الناس ودفعهم للإمساك بتلابيبه أكثر، ويستخدمها الإخوان في خلق مظلومية تشكل عبئا نفسيا على من يفكر في ترك الجماعة أو التراجع عن مواجهة النظام.

سيقولون إننا ندين الطرفين لنمسك العصا من المنتصف، الأسوأ من ذلك أن نعفي مُدانا من المسؤولية حتى لا يتهمنا أحد بأننا نمسك العصا من المنتصف.

3-
نظام 3 يوليو قمعي ومستبد وهو المسؤول الأول عن الدماء التي أريقت يوم 14 أغسطس 2013؟ هذه حقيقة. 

الإخوان جماعة انتهازية استخدمت الأطفال والنساء والشباب دروعا بشرية للتفاوض على فتات سياسي؟ هذه حقيقة. 

ما حدث في رابعة العدوية مذبحة مروعة؟ هذه أيضا حقيقة. 

إنكار الحقائق لن يحولها إلى أكاذيب، وترديد الأكاذيب لن يجعلها بالتكرار حقائق.

لا تدع حبك للنظام أو كرهك للإخوان يجعلك تعتبر ما حدث شيء طبيعي في سياق الحرب على الإرهاب، لا تدع حبك للإخوان وكرهك للنظام يجعلك تعفي قيادات الجماعة من المسؤولية عن دماء كان بأيديهم عصمتها، قل إنها مذبحة ثم واصل كراهيتك للإخوان، قل إن قيادات الإخوان مجرمة ثم واصل كراهيتك للنظام.

سيأتي مسؤولون ويروحون وتصعد قيادات وتهبط، وستبقى مشاهد الجثث المتراصة على الأسفلت، والجثامين التي سحلتها الجرافات، والأخرى المحترقة داخل الخيام، والأرقام المكتوبة على الأكفان، والضباط الشباب المحمولون على أكتاف رفاقهم، وصراخ الأحياء المنهارون من هول المشهد، والفزع الساكن في عيون الأطفال، والدخان المتصاعد من كل ركن، والدماء المتراكمة على كل رصيف، والصرخات الخارجة من كل شاشة أن "أبيدوهم"، والكذب الصادر عن كل مسؤول بأننا كنا ندافع عن النفس.

حدث ما أراده النظام وخاف الناس فعلا، حدث ما أراده الإخوان وصارت إشارة الأصابع الأربعة رمزا، حدث ما توقعناه وصار الإرهاب المحتمل واقعا، لكن لا الأمن تحقق، ولا مرسي رجع، ولا من قُتل وهو يدافع عن أمل كاذب أو يحارب عدوا وهميا عاد.