قضايا وآراء

هل تتجه العلاقات التركية الإسرائيلية نحو التطبيع؟

1300x600
يَعرفُ الرأيُ العام التركي انقساما بين مؤيد لتطبيع العلاقات مع إسرائيل و معارض لهذه الخطوة، أو على الأقل مؤجل لها إلى حين استجابة إسرائيل للشروط الثلاثة التي طالبت بها تركيا في أعقاب حادثة الاعتداء على سفينة " مرمرة" منتصف عام 2010، وهي تحديدا: الاعتذار عن الاعتداء، والتعويض عنه، ورفع الحصار عن غزة.. ولنتذكر فورةَ الاعتزاز التي حظي بها الموقف التركي، والشعبية التي حصدها حزب العدالة والتنمية في شخص زعيمه " الطيب أردوغان" وحكومته. لكن، كما قالت العرب، " تجري الرياح بما لا تشتهي السفن"، فما بين حادثة الاعتداء ) 2010( ونهاية 2015، تغيرت أمور كثيرة داخل الجوار التركي وفي العالم، واستجدت أولويات لم تكن مطروحة على جدول أعمال صنّاع القرار الأتراك.

ثمة معطيات ذات قيمة استراتيجية في تحليل العلاقات التركية الإسرائيلية صعودا ونزولا، وهناك محددات يصعب استبعادُها في فهم ما يجري داخل المطبخ التركي الإسرائيلي. لذلك، يذهب عديد المحللين إلى أن تجدد الحديث، وبشكل كثيف، عن عودة العلاقات التركية الإسرائيلية إلى سابق عهدها ليس أمرا مفاجئا، بل يُعدّ تحصيل حاصل. فتركيا، كما هو معروف، هي ثاني أكبر دولة ذات أغلبية مُسلمة بعد إيران تعترف بإسرائيل في مارس 1949، ومنذئذ لم تتوقف علاقات البلدين عن النمو والتطور، لاسيما في المجالات العسكرية والدبلوماسية والاستراتيجية. 

يُساعدنا استحضار هذه الخلفية التاريخية على تأكيد اتجاه العلاقات التركية الإسرائيلية نحو التطبيع أكثر من استمرارها متوترة ومتنافرة، وقد يُسعفنا في فهم مدى صدقية الموقف التركي حُيال دولة إسرائيل. فما هو ظاهر ومسوَّق دوليا دخول تركيا دائرة الصراع مع إسرائيل، بسبب تنكيل هذه الأخيرة بالشعب الفلسطيني، وممارستها الحظر على جزء مهم من فلسطين، أي قطاع غزة. غير أن ما هو عميق ومُحدِّد بشكل مفصلي أن بين تركيا وإسرائيل مصالح حيوية في أكثر من مجال وعلى أكثر من مستوى، وأن منطق المصالح هو الفاصل في النهاية أكثر من أية ضرورات أخرى. 

 وتقودنا هذه الإشارة إلى إعادة التأكيد أن بين تركيا وإسرائيل واقعيا من المصالح ما يجمعهما أكثر مما يفرقهما، وحين نستحضر معالم أكثر من نصف قرن من العلاقات بين البلدين، يتبين أن التطبيع وارد، لأنه الأصل وما عداه فرع واستثناء ليس إلا. ففي أوج تصاعد الحرب الباردة وتغوّل الاتحاد السوفييتي، أبرم " دافيد بن غوريون" مع " عدنان مندريس" عام 1958، تفعيلا لمبدأ "حلف الأطراف"، اتفاق تعاون لمناهضة النفوذ السوفييتي، والحدّ من تغلغله في منطقة الشرق الأوسط، وحين تم تثبيتُ العلاقات الدبلوماسية رسميا ما بين 1991 و1996، تمّ التوقيع على اتفاقية تعاون عسكري شملت محاورَ بالغة الأهمية، من قبيل الدراسات والبحوث الاستراتيجية المشتركة، والقيام بمناورات برية وبحرية جماعية، علاوة على تبادل الخبراء العسكريين، دون نسيان أن إسرائيل من أكبر مصدري السلاح لتركيا. أما العلاقات الاقتصادية بين البلدين، فالإحصائيات المتداولة من المراكز العلمية والاستراتيجية ذات العلاقة، تؤكد حجم المصالح الاقتصادية والتجارية الواقعية بين البلدين، ليس خلال العقود السابقة فحسب، بل حتى في ظل ما سُمي التوتر التركي الإسرائيلي غداة الاعتداء على سفينة "مرمرة" سنة 2010. فعلى سبيل المثال، تُعتبر شركة Zorlu Holding ـ ثاني شركة في تركيا، وهي في ملكية رجل الأعمال " أحمد زورلو"ـ من أكبر الشركات التي تستثمر في قطاع الطاقة في إسرائيل، حيث أنجزت بتعاون مع نظيرتها " أدلتيك" الإسرائيلية، الكثير من محطات توليد الكهرباء في إسرائيل في ظل سنوات الأزمة بين البلدين.

الخلاصة إذن، أن التوتر بين البلدين لا يجد مسوغاته المُقنعة في واقع المصالح الحيوية المتبادلة بين البلدين، بقدر ما يُفسر بعوامل غير بنيوية وقارة، من قبيل التنافس على الأدوار القيادية في المنطقة، والأمزجة المتباينة بين النخب الحاكمة، وما يمكن أن يطرأ من متغيرات استراتيجية على المنطقة، أي على الجوار التركي الإسرائيلي، ولاسيما العربي منه. لذلك، يبدو أن التغير الحاصل، أو الذي هو في طريق الحصول، في منطقة الشرق الأوسط تحديدا، له الدور الفاصل والمفسر لانعطاف السياسة التركية نحو التطبيع مع إسرائيل. دليلُنا في ذلك، أن التدخل العسكري الروسي في سوريا للقضاء عل تنظيم " داعش"، غَيّر كل المعطيات، ودفع مجمل الفاعلين في المنطقة إلى الانتباه إلى أهمية مراجعة رهاناتها، وفي مقدمتها تركيا. 

لقد وعت النخبة التركية أن رهاناتها المتوقعة من تغيير الواضع في سوريا لم تعد واقعية ولا مُجدية، وأنها في حاجة إلى مراجعة لتتواؤم مع المعطيات الجديدة، لعل أهمها أنها فقدت حليفا في مصر، الإخوان المسلمون، ولم يعد واردا نجاح الخيار العسكري بإسقاط النظام واعتماد آخر جديد في سوريا يكون لتركيا حظ وافر من ولاء نخبته لها، ثم إن الملف النووي الإيراني قد دخل دائرة التسوية، ولم يعد واردا إضعاف هذا البلد من بوابة هذا الملف، ناهيك عن أن لإسرائيل مشروعَ تمرير أنابيب الغاز المكتشف مؤخرا نحو أوربا عبر الأراضي التركية.. نحن إذن أمام متغيرات جيواستراتيجية جديدة، ومصالح حيوية مستجدة.. وهذا ما سيدفع واقعيا بتركيا نحو العودة إلى زمن التعاون مع إسرائيل.. أما ورقة فلسطين، ومستقبل العلاقة مع "حماس" وغيرها من التنظيمات الإسلامية الفلسطينية والعربية، فتلك أمور خاضعة بحكم الضرورة لمنطق المصالح، وليس لهوى القلوب والخطابات الوجدانية.