كتاب عربي 21

أخرجوا آل جنينة من قريتكم

1300x600
(السيد المستشار الفاضل هشام جنينة رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات

تحية طيبة وبعد

بداية، نشكر لسيادتكم حرصكم الكبير على المال العام وجهدكم الوافر لكشف الفساد والمتلاعبين بأموال الشعب وقوته في هذه المرحلة العصيبة التي تمر بها مصر، ونثق في قدرة جهازكم الموقر على مواصلة المشوار والتصدي لكل من تسول له نفسه العبث بمقدرات المصريين.

ثانيا، إننا كلجنة تقصي حقائق تم تشكيلها بقرار من رئيس الجمهورية للتحقيق في الرقم الذي ورد على لسان سيادتكم بشأن تقدير حجم الفساد والبالغ 600 مليار جنيه، قمنا بمراجعة تفصيلية من أجل الوقوف على حجم الفساد وصوره لمحاسبة كل من تورط في إهدار المال العام، وفي أثناء قيامنا بذلك لاحظنا بعض الأرقام التي أساء جهازكم الموقر تقديرها، وعليه رأينا أن نضع الأرقام الحقيقية أمام الرأي العام حتى يعرف أين تذهب أمواله، مع احتفاظكم بحق الرد على أي ملاحظة نبديها ما توافرت لديكم الأدلة اللازمة لذلك). 

هذه هي البداية التي كان يجب أن يكون عليها تقرير لجنة تقصي الحقائق المشكلة للتحقيق في رقم الـ600 مليار جنيه لو كانت مشكلة فعلا لتقصي الحقائق، لكن البيان الرسمي للجنة يؤكد أنها "خصم" هدفه تقصي الأخطاء لا الحقائق، واغتيال "جنينة" معنويا لا معاونته، وتبييض وجه الفساد لا مواجهته.
أولا: لم يذكر البيان اسم "المستشار هشام جنينة" ولا مرة، واكتفى بالإشارة إليه طوال الوقت بعبارة "رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات"، وهو ما يكشف سريعا موقف اللجنة المبدئي من جنينة الذي يصل لدرجة الامتناع عن ذكر اسمه، والاكتفاء بمنصبه خلافا لكل المكاتبات الحكومية المعروفة.

ثانيا: اختيار الألفاظ لوصف معلومات رئيس الجهاز يكشف بدوره موقف اللجنة المسبق منه، حيث عنوت ملاحظاتها الخمس على تقرير جنينة بـ"التضليل والتضخيم – فقدان المصداقية والإدراج المغرض – الإغفال المتعمد – إساءة توظيف الأرقام – إساءة استخدام كلمة الفساد لتصوير كل الجهود والمبادرات التي تبذلها الدولة على أنه لا طائل من ورائها". 

كلام ينضح كراهية وبُغضا، تقرير يُفترض فيه التجرد يستخدم عبارات من نوعية مغرض ومتعمد وكأنه يفتش في النوايا، تقرير يفترض فيه الاستقلال يقول شِعرا في جهود ومبادرات الدولة لمواجهة دون توجيه نقد واحد لها أو ذكر أي منها، تقرير يُفترض فيه البحث عن الحقيقة تشعر من كلمة فيه أنه فقط كان يبحث عن الأخطاء.

ثالثا: أمامك رقم يُقدر الفساد في مصر بـ600 مليار جنيه، المنطق يقول إنه لتثبت خطأ هذا الرقم عليك أن تأتي بالرقم الحقيقي، لكن هذا لم يحدث، فاكتفت اللجنة التي أبدع الإعلام بغير قصد حين سماها "لجنة السيسي" بانتقاء بعض النقاط في تقرير جنينة لتنفيها فتنفي صدقية التقرير بالتبعية، دون مجهود يذكر في البحث عن الرقم الحقيقي للفساد والمساعدة في المحاسبة عليه.

رابعا: انتقد البيان بعنف اعتبار "جنينة" تأخر سداد مديونيات الشركاء الأجانب في قطاع البترول وجدولتها فسادا، واعتبرت اللجنة ذلك غيابا أو تغييبا (لاحظ النبرة العدائية المعتادة) لما أسمته الحس الاقتصادي لأوضاع البلاد الاقتصادية، وما تعرضت له هذه الشركات من خسائر نتيجة الأحداث السياسية. لم ينف البيان ما قاله جنينة، لكنه عاب عليه "فقدان الحس الاقتصادي" ونسي أن مهمة جهاز المحاسبات الإشارة إلى المخالفات فحسب وترك اتخاذ قرار بشأنها للقيادة السياسية، كما تحدث التقرير عن الخسائر التي تعرضت لها شركات البترول، التي نتج عنها تأخر سداد المديونية دون أن يحدد حجم هذه الخسائر التي دفعت الدولة للتنازل عن تحصيل مديونات كبيرة لشركات البترول في وقت تحتاج فيه خزينة الدولة لكل جنيه.

كذلك انتقد البيان إدراج المحاسبات مبلغ 134 مليار جنيه نتيجة عدم التزام هيئة المجتمعات العمرانية منذ إنشائها بتخصيص 5 كيلو مترات حول كل مدينة كأراضي بناء، مما عطل الاستفادة بتلك المساحات، دون مراعاة أن تلك التصريحات غير المسؤولة يمكن أن تستخدمها المنظمات الدولية في ترتيب وتصنيف الدول، التي تعد أهم مدخلات تتخذ على أساسها مؤسسات الدولية قراراتها.

والحقيقة أن هذا البند تحديدا يكشف طريقة لجنة السيسي في التعامل مع تقرير جنينة، هي لم تنف الواقعة التي أوردها جهاز المحاسبات، لكنها استنكرت الإعلان عنها لأن ذلك يسيء لصورة مصر ومن ثم يجهض محاولاتها الدائمة للاستدانة من مؤسسات التمويل! والغريب أن من أعلن ذلك ليس المستشار جنينة الذي تحدث عن رقم واحد للإعلام وأرسل البيانات التفصيلية للجنة، فقامت هي بإعلانها لتعرفها المؤسسات الدولية من بيانها هي، لا من تقرير هشام جنينة!

خامسا: في 26 ديسمبر 2015 شكل الرئيس السيسي لجنة تقصي الحقائق، وفي 12 يناير 2016 أعلنت اللجنة تقريرها النهائي، في أسبوعين فقط درست اللجنة وقائع فساد يقال إنها بلغت 600 مليار جنيه، واستمعت لشهادات وفحصت آلاف الأوراق وناقشت موظفي الجهاز في تقريرهم وكتبت هي تقريرها وأعلنته، بينما لم يصدر تقرير لجنة تقصي الحقائق في أحداث مسرح البالون حتى الآن!

بالطبع هشام جنينة ليس منزها عن الخطأ، وبالطبع لا نقطع بأن رقم الـ600 مليار جنيه صحيح أو خطأ، لأنه في دولة لا تتيح المعلومات التافهة قبل المهمة لا يمكن التأكد من أي شيء، لكن الواضح أننا أمام حملة ممنهجة وقاسية ضد الرجل، هدفها إرهابه وأي شخص يفكر في كشف فساد، وأمام توجه جديد قديم للدولة يفضل التعايش مع الفساد بدلا من مواجهته، ربما لأنهم يقدمون الخوف من شماتة الأعداء على الخوف من إهدار المال العام، وربما لأن الفاسدين أنفسهم هم الحاكم الفعلي للبلد.

يريدون محاسبة ومحاكمة رئيس جهاز المحاسبات لأنه أدلى بمعلومات يرونها غير دقيقة، رغم أن كثيرين غيره يقدمون يوميا أرقاما غير صحيحة وتقديرات وهمية، ولا أحد يمس طرف ثوبهم بسوء، بل ويجد هؤلاء من يفسح المجال لهم لتولي مناصب أرفع، ومن يوصلهم أحيانا إلى "الاتحادية".

دعونا نفترض أن رقم الفساد الحقيقي عُشر ما قدّره "جنينه"، فماذا يعني ذلك؟ يعني أننا أمام فساد تصل قيمته إلى 60 مليار جنيه في بلد ينتظر المعونة تلو الأخرى لينصب قامته، فماذا فعلت اللجنة وستفعل الرئاسة في مواجهة ذلك؟ وهل ستقدر على فتح ملف فساد بعض الأجهزة السيادية؟ أم إن الأمر سيقتصر على ذبح جنينة، بينما سيكفي الفاسدون تبرعا بعدة ملايين لصندوق تحيا مصر لغسل سمعتهم وإثبات وطنيتهم؟

لا أحد يدفع فاتورة الفساد سوى الشعب، ولا أموال الفساد ستعود لجيب جنينة، فإما أن يدافع هذا الشعب عمن يدافع عن أمواله، وإما أن يذبحه وينصر من يسرقونه.