كتاب عربي 21

الثورة المضادة والمتصهينة العرب (1)

1300x600
تقوم الثورة المضادة بكل عمل ما من شأنه أن ينال من الثورة الحقيقية أو يؤثر عليها سلبا فيقوم بتطويقها أو بالالتفاف عليها تمهيدا لإجهاضها أو الإجهاز عليها، هذا شأن الثورات المضادة، وهي كذلك تعمل جاهدة بإسنادها بسياسات واستراتيجيات تحقق أهدافها في كل ما يتعلق بالانقلاب على كثير من الثوابت المتعلقة بالأمة والوطن، وأخطر ما في هذا الشأن أن تتعاون وتتحالف مع الخصوم والأعداء، وتروج لسمومها في المواقف والأفكار، وتقوم بعملية تسميم سياسي فتقلب المواقف وتتبنى حتى ما يضر بالألوان وأمانها وأمنها القومي، وتتخذ من المواقف المفتعلة في مواجهة ما يستحق التحالف وما يمكن لمواجهة الخصوم ومقاومة الأعداء.

في علم الاتصال السياسي هناك ظاهرة مهمة هي "التسميم السياسي (intoxication)" كتب عنها العالم الراحل حامد ربيع وغيره من علماء السياسة العرب. وهي تشير إلى محاولة زرع أفكار معينة أو قيم دخيلة من خلال الكذب والخديعة ثم العمل على تضخيم هذه القيم تدريجيا لتصبح قيما عليا في المجتمع المستهدف. وعملية التسميم السياسي، بهذا المعنى، مرحلة من مراحل المعركة مع الخصم أو مقدمة لمعركة قادمة، وهي تستهدف تبديل القيم أو التحلل من قيم معينة بشكل تدريجي وغير مباشر. والأخطر من كل هذا أن التسميم لا يمارسه العدو مباشرة وإنما يتم استعمال نخب فكرية وثقافية وفئات مختارة لتُنقل لها – في مرحلة أولى - الأفكار الدخيلة، ثم تُترك هذه النخب والفئات – في مرحلة ثانية - لتنقل تلك الأفكار إلى الجماهير من خلال أدوات الدعاية والإعلام المختلفة. أنا أعتقد جازمًا أن آلة الدعاية الصهيونية نجحت في زرع الكثير من الأفكار الدخيلة ثم تَرَكَت لضعاف النفوس وأنصاف المتعلمين رعايتها حتى صارت هذه الأفكار مصدرًا للكثير من الفتن والانقسامات وامتهان كل ما يتعلق بالثوابت الأساسية والاستراتيجية.

أخطر ما في هذا الأمر أن هذه القوى تحاول جاهدة ومجهضة لكل ما يتعلق بالتلاعب بحقائق الأمن القومي وجوهره وأصوله المكينة، فتهون منها عن عمد، والأكثر خطورة من ذلك أنها تتلاعب بمفهوم وحقيقة العدو فتقرر بكل بساطة العدو حليفا والحليف الثابت تضعه في دائرة الخصم،‏‏ وعملية التسميم السياسي بهذا المعنى، مرحلة من مراحل المعركة مع الخصم أو مقدمة لمعركة قادمة، وهي تستهدف تبديل القيم أو التحلل من قيم معينة بشكل تدريجي وغير مباشر. والأخطر من كل هذا أن التسميم لا يمارسه العدو مباشرة وإنما يتم استعمال نخب فكرية وثقافية وفئات مختارة لتنقل لها في مرحلة أولى- الأفكار الدخيلة، ثم تترك هذه النخب والفئات في مرحلة ثانية- لتنقل تلك الأفكار إلى الجماهير من خلال أدوات الدعاية والإعلام المختلفة، حملة شاملة تستخدم كل الأجهزة والأدوات المتاحة للتأثير في نفسيات وعقول وذاكرة الجماعة أو الأمة أو الشعب المحدد، وذلك بقصد تغيير أو تدمير مواقف معينة، وإحلال مواقف أخرى محلها تؤدي إلى سلوك يتفق مع مصالح وأهداف الطرف -أو الأطراف- الذي يقوم بعملية التسميم السياسي، وغالبا ما تكون هذه العملية موجهة إلي أمة أو مجتمع، بما يؤثر على العقول والأفئدة عن طريق التلاعب بعناصر التكوين المعنوي، الأمر الذي يمثل قمة التوجيه السياسي أو المعنوي..

وهكذا يعد التسميم السياسي إحدى العمليات أو المقدمات المنطقية التي يعاد من خلالها تشكيل الإطار الذي ينطلق منه الرأي العام في مجتمع معين، بحيث يتم تشكيل ذلك الرأي العام إزاء القضايا التي تواجهه بشكل يتناسب مع القيم الجديدة الزاحفة والمضادة التي تم غرسها، أو تسريبها إلى عقله ووعيه الجماعي أو ذاكرة النخبة المثقفة والقائدة فيه.  

تذكرت كل هذه المعاني التي حددها الدكتور ربيع في إطار عملية تسميم سياسي واسعة للشعب والوطن بعد الثورة للالتفاف عليها والعمل على إجهاضها وتوجيهها، ويتضح ذلك من خطاب ومواقف وأفعال ارتبطت بمحاولات تشويه هذه الثورة قامت بها الثورة المضادة في البداية، ثم انتقلت للأسف على ألسنة نخبة أرادت أن تنشر هذه الأفكار في وسائل الإعلام وفي إطار مقولات أزالت الحدود بين من قاموا بالثورة وبين خصومها من الثورة المضادة.

قلنا مرارا وتكرارا إن الثورة المصرية وكذا الثورات العربية قامت بدور مهم باعتبارها تعبر عن مرحلة كاشفة وفارقة في آن واحد‏، وبهذا الاعتبار نجد ذلك أوضح ما يكون بصدد خطوط حمر فاصلة أكدتها هذه الثورة منذ أن قامت. من هدم تلك الخطوط الحمر نرى هذه الظاهرة التي تنامت ممن أسموا بالمتصهينة العرب. بدا هؤلاء يتحدثون ببجاحة واضحة وتناحة مفرطة. صحيح أن هذه الظاهرة نشأت بشكل مبكر قبل الثورات العربية، إلا أن أداء هذه الفئة تحول نوعيا في كثافته ومفرداته الفاجرة الفاضحة وتطرق البعض لموضوعات شديدة الحساسية، يتحدثون بلغة العدو لا يغادرونها، يكسرون أي مصدر من مصادر المقاومة، يروجون لأفعال الانبطاح وتمرير سلوك الصهينة والتصهين.. المؤشرات واضحة في هذا المقام سنرى كل ذلك في مقال قادم.