قضايا وآراء

المسألة الدينية في دساتير دول "الربيع العربي"

1300x600
من أصل 17 بلدا طاله الحراك العربي، لم تشهد ميلاد دساتير جديدة سوى دول عربية قليلة، كما هو حال تونس، ومصر، والمغرب، وإلى حد ما الأردن واليمن والبحرين. 

وما زالت بلدان أخرى تنتظر بناء دساتير جديدة، كما هو الحال في الجزائر وليبيا وسوريا، وإن كان ذلك بدرجات مختلفة. 

وعلى امتداد خريطة البلدان العربية، شكلت المسألة الدينية أحد المحاور الرئيسة في النقاشات الدائرة حول الفلسفة الناظمة للوثائق الدستورية الجديدة.

لاشك بأن المسألة الدينية مثلت إحدى القضايا الخلافية على امتداد سيرورة بناء الدساتير العربية الجديدة، وأن التجربة التونسية قدمت نموذجا للتجاذبات السياسية بين مختلف مكونات المجال السياسي.. 

فقد عاشت تونس شبه انقسام بين من يدعو إلى إيلاء الإسلام والشريعة الإسلامية مكانة مميزة في نص وثيقة الدستور، كما هو حال حزب النهضة، ومن ناصره من التنظيمات، وهناك من شدد على الطابع العلماني للدولة ومؤسساتها، كما دافع عن ذلك العلمانيون بألوانهم وتياراتهم كافة. 

ولعل حالة مصر والمغرب لم تكن بعيدة كثيرة عن روح هذه التجاذبات.

تمثل في الواقع علاقة الدين بالسياسة أو الدولة في مجمل البلدان العربية ثنائية بالغة التركيب والتعقيد، ولعلها من الحلقات الأكثر تأثيرا على الحياة السياسية لمجتمعات هذه البلدان وأحوالها.

ليس بسبب أن تدّخل الدين في السياسة أو شؤون الدولة، ممارسة مضرة أو غير محبذة، وإنما بسبب الأفهام والأطر المرجعية المؤسسة لهذه العلاقة، الناظمة لسلوك أطرافها. 

ما هو ملاحظ بشكل ملموس في الواقع العملي استثمار "السياسي" لـ"الديني"، وتوظيفه في أغلب الأحيان لإضفاء الشرعية على سلوكات سياسية لا تحظى بالقبول من قبل المجتمعات، أو لا تتطابق مع الدين، كما يفهمه الناس ويمارسونه في حياتهم اليومية، أي "التدين الشعبي".

فكثيرا ما يحصل تصادم بين "الدين الرسمي"، أي الدين الذي تسوقه الدولة وفق رؤيتها واستراتيجيتها لتدبير المجال الديني، و"التدين الشعبي"، الذي يتعاطاه الناس بتلقائية، وبساطة، ودون تصنع، أو أهداف مسبقة.

فإذا أخذنا الدول الثلاث المشار إليها أعلاه، أي تونس ومصر والمغرب، عينات لتحليل النقاشات المصاحبة لعملية كتابة الدستور، والتوافقات التي تمت بخصوص تنظيم المسألة الدينية في الوثائق الدستورية، سنلاحظ أن ثمة خيطا رابطا بين البلدان الثلاثة، يتعلق بصعود "الإسلاميين"، كليا أو جزئيا إلى السلطة في هذه الأقطار، سواء تعلق الأمر بحركة النهضة في تونس، أو "الإخوان المسلمين" في مصر، أو حزب العدالة والتننمية في المغرب.

ومن هنا، تفهم التخوفات التي أبدتها قطاعات واسعة من مجتمعات هذه البلدان، وهي تتابع بناء دساتير ما بعد الحراك الاجتماعي، أو "الربيع العربي".

ففي المغرب، أصبحت قضية نزع الطابع الديني عن بعض فصول الدستور، أو على الأقل التخفيف منها، مطروحة بحدة منذ الإصلاحات التي جرت بداية عقد تسعينيات القرن الماضي، في دستوري 1992 و1996. 

أما لب ما طرح من ملاحظات واقتراحات للعلاج، فتعلقت تحديدا بالفصل 19، الذي ظل على امتداد كل دساتير المغرب منذ الاستقلال (1962 ـ1970ـ 1972ـ 1992 ـ 1996)، موضوع تجاذب بسبب مضمونه والتأويلات التي طالته. 

فالفصل ينص على إمارة المؤمنين، أي يمنح الملك لقب "أمير المؤمنين". 

وتأسيسا على هذا اللقب، تم اللجوء إليه بكثافة لتأويل مفتضيات وأحكام الدستور بشكل وسع سلطات الملك، وضخم مجالات تدخله على حساب باقي المؤسسات الدستورية. 

يضاف إلى هذا الفصل، وجود أحكام في الدستور أضفت على شخص الملك طابع "القداسة" Sacralité. 

لذلك، كانت مطالب بعض الأحزاب السياسية والمنظمات الحقوقية والجمعيات المدنية إعادة النظر في هذا الفصل، وما يرتبط به من أحكام، وهذا ما استجاب له بشكل كبير الدستور الصادر في سياق الحراك العربي، أي وثيقة 29 تموز/ يوليو 2011.

أما في تونس، فقد كان التجاذب أكثر حدة، وأبلغ ضغطا بين الفاعلين الحزبيين، وبين هؤلاء والمجتمع المدني، قبل أن يصار في النهاية إلى صيغة توافقية لتنظيم علاقة الدين بالسياسة أو الدولة في نص الدستور (2014). 

فمن أدلة التوافق الحاصل في التجربة الدستورية التونسية، انطواء الوثيقة على نصين متجاورين يحيلان على طرفي الصراع حول المسألة الدينية عند كتابة الدستور. 

فمن جهة، تم الإبقاء على الفصل الأول، كما ورد حرفيا، في وثيقة الاول من حزيران/ يونيو 1959، أي اعتبار "الاسلام دين الدولة". 

في حين قضى الفصل الثاني الذي يليه بأن "تونس دولة مدنية تقوم على المواطنة وإرادة الشعب وعلوية القانون". 

ومثله مثل الدستور المغربي، تضمن الدستور التونسي فصولا متناثرة ذات صلة بالدين، تأكيدا للتوطئة، وهي جزء لا يتجزأ من الدستور، على أن "إسلام الدولة وسطي المنهج"، أو تنصيص الفصل السادس على حماية الدولة للمقدسات الدينية"، ناهيك على إجباره الدولة على رعاية حرية المعتقد والضمير.

وتنسحب الملاحظة نفسها على الدساتير المصرية الصادرة في سياق الحراك أو "الثورة".  فمن المعروف أن مصر شهدت  صياغة أكثر من دستور ما بين انطلاق الحراك في حزيران/ يناير 2011، وصدور آخر دستور مستهل العام 2014، لاعتبارات تتعلق بتعاقب فريقين على السلطة: الإخوان المسلمون الذين قادتهم صناديق الاقتراع عام 2012، وعودة الجيش صيف 2013. 

ومن المعرف أيضا أن "دستور الإخوان" جاء مفعما بالأحكام ذات الطابع الديني، والمقتضيات المحيلة على المرجعية الإسلامية. لذلك، ومع تسلم الجيش السلطة أعيدت عملية كتابة الدستور بما سمح بنزع الطابع الإسلامي عن الوثيقة الدستورية.

ومع ذلك، تحتاج النصوص الدستورية إلى ممارسات جيدة، تحافظ من جهة على روح  الدساتير، ومن جهة ثانية مراكمة ثقافة تساعد على وعي المسافة اللازمة بين الدين والسياسة في الدولة ومؤسساتها. 

ودون ذلك ستختل العلاقة بين طرفي هذه الثنائية، التي غالبا ما تكون الغلبة فيها للسياسة على حساب الدين، بمعناه النقي.