كتب

الخيال السياسي للإسلاميين.. ما قبل الدولة وما بعدها

وظفت المؤلفة ثلاثة مداخل لتحليل النصوص التي تعكس خطاب الإسلاميين - أرشيفية
على الرغم من الحضور المركزي "للدولة الإسلامية" في خطاب الحركات الإسلامية المعاصرة، إلا أن تصورات تلك الحركات للدولة "الحلم" ليست محددة المعالم، بل يكتنفها قدر كبير من التعميم، وتجنح في كثير من جوانبها إلى استلهام النموذج التاريخي، وتغرق حينا آخر في البراغماتية العملية التي تتراجع معها مهمة تلك الحركات الرسالية والدعوية. 

يتصدى كتاب "الخيال السياسي للإسلاميين.. ما قبل الدولة وما بعدها" للأكاديمية المصرية، لأستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة، الدكتورة هبة رؤوف عزت لاستكشاف "مقومات الخيال السياسي للإسلاميين كما يتجلى في خطابهم ومفاهيمهم"، والذي يأتي على رأس أولوياته استشكاف تصورات الإسلاميين للدولة كمفهوم، تنطلق منه الدولة لفرض سيطرتها وسياساتها.

وقد اختارت المؤلفة ميدانا لدراستها، حصرته في دراسة وتحليل مضامين المقالات والأبحاث المنشورة على صفحات مجلة "المنار الجديد"، في مرحلة ما قبل الربيع العربي، معللة اختيارها ذاك بتقييد حرية الإسلاميين عن التعبير، ومنع جماعة الإخوان من إصدار مجلات وصحف ونشرات تعبر عن أفكارها ورؤاها السياسية، ما ألجأها إلى اختيار مقالات مجلة المنار، والتي اشتملت على مقالات وأبحاث لكتاب ومفكرين من مختلف الطيف الإسلامي، وقد تولى رئاسة تحريرها والإشراف عليها "السلفي المستنير" جمال سلطان.

يقع هذا الكتاب في نطاق الكتب والأبحاث الداعية بإلحاح إلى مراجعة المفاهيم والأفكار، والمؤلفة تفصح عن ذلك حينما تقول: "إن الساحة الإسلامية أحوج ما تكون الآن إلى مناقشة تصوراتها عن الدولة الإسلامية ومراجعتها أكثر من أي وقت مضى، فقد غلبت العموميات البلاغية، والتصورات التاريخية على رؤيتها حينا، وطغت الاعتبارات العملية (البراغماتية) على حركتها حينا آخر، فتراجعت أولوية مهمتها الرسالة والدعوية..".

ولأن المؤلفة تستشعر مدى نفور الساحة الإسلامية من كتابات التقويم والمراجعة، فقد أكدت على أن "الدعوة إلى المراجعة هنا لا تعني التراجع ولا النقض، ولا تُحركها عقلية الانكسار ولا أوهام الاستكبار، بل هي واجب شرعي وتاريخي يقترن بمهمة التجديد وهي مسؤولية من يرفع لواء هذا الدين لعظم الأمانة التي يحملها حين يتحدث بلسان المرجعية الشرعية ويتحرك تحت مظلتها..".

"فتح الحوار حول الدولة الإسلامية" قضية أوْلتها المؤلفة اهتماما بالغا في كتابها، ورأت أننا "نحتاج أكثر - بشكل موازٍ - إلى مراجعة الدولة الحديثة في صورتها القومية كمتغير مفاهيمي، وهو موضوع محوري في النظرية السياسية، بمعنى: كيف نفكر في الدولة و"نتخيلها"؟ وكيف نحن في أمَس الحاجة إلى تجديد تصوراتنا لها بمثل ما نحتاج إلى تجديد "أمر" الدين.. محذرة في الوقت نفسه من أن "الدولة كبناء لا ينبغي أن تصبح وثنا ولا صنما أبدا، بل هي في الأصل أداة لرعاية مصالح الناس ومنتج بشري كما ذهبت أغلبية الفلسفات والرؤى..". 

خرائط التفكير ولغة التعبير

في تعليلها لاختيار مجلة المنار الجديد ميدانا لدراستها، رأت المؤلفة أن المجلة تشكل "مساحة نموذجية للدراسة، وساحة متنوعة الأطياف للاقتراب من التصور الإسلامي للحركيين في شأن واقع الحركة ومستقبلها، وملامح المشروع السياسي، وفهم البيئة السياسية المحلية والدولية".  

بدأ صدور مجلة المنار الجديد في شتاء 1998، "وهي تضم في هيئة المستشارين أسماء متنوعة المشارب من عبد الوهاب المسيري، ونادية مصطفى، وعبد الرزاق الشايجي، ويوسف القرضاوي، ومحمد عمارة، أي أنها تجمع فيها من ينتمون إلى مدرسة الإخوان فكريا مع أكاديميين مستقلين مع من يمثلون "السلفية العلمية" من أساتذة الشريعة".

صنفت المؤلفة المقولات المطروحة في مجلة المنار الجديد بأنها تنتظم في معظمها تحت ثلاثة محاور:

- هموم الداخل الحركي، ومراجعات الحركيين لمسيرة العمل السياسي وعلاقتهم بالدولة.

- بعض الأفكار حول ملامح المشروع السياسي الذي يقدّمه الإسلاميون: تصوّر السياسية – وضع الأقباط – وضع المرأة.

- العلاقة بالعالم بالمعنى الواسع وإدراك مستجداته. 

فيما يتعلق بـ"هموم الحركة والنقد الذاتي"، أشارت المؤلفة إلى أنه "يتضح بجلاء أن هناك مراجعة للواقع الحركي، وأن هموم أزمته تنعكس في عدد من المقالات التي تسعى إلى تحليل مسيرة الحركات الإسلامية ومستقبل العمل الإسلامي في المجال السياسي". 

بعد استعراضها لمقالات رموز وقيادات إسلامية مختلفة، بعضها كان ينتمي لجماعة الجهاد سابقا، كالباحث كمال السعيد حبيب، وبعضها ينتمي إلى الجماعة الإسلامية كصلاح هاشم، وبعضها كان ينتمي للإخوان ثم انتقل إلى حزب الوسط، كأبي العلا ماضي، ومنها قيادات أخرى ما زالت تنتمي إلى الإخوان كعصام العريان، خلصت المؤلفة إلى نتيجة مفادها: "لكن النظرة الكلية ومراجعات فقه الدولة وفلسفتها تغيبان.." عن معظم تلك الكتابات والمعالجات. 

والملاحظة ذاتها أبدتها المؤلفة على افتتاحيات المحرر جمال سلطان "السلفي المستنير"، فلا تجد فيها كلاما حول "فقه الدولة" ولا كلاما "في" نظرية الدولة وضرورة مراجعة مركزيتها لدى الحركة الإسلامية في تطويرها رؤاها وخطابها، وضرورة إعادة تعريف السياسة في فهم الحركة في ظل تحولات نوعية في الظواهر السياسية..".

أما بخصوص "رؤية المشروع"، فقد تناولت المؤلفة الرؤية التي يطرحها الدكتور محمد عمارة والمعبر عنها بقوله: "من مقومات الإصلاح الديني الإصلاح السياسي المدني، على أن الإصلاحين متلازمان في الأمة الإسلامية، ولا يقوم أحدهما حق القيام إلا بالآخر.."، ثم يرى أن الإصلاح يستلزم تطوير علوم التمدن المدني مع الاحتفاظ بالتميز في العقائد والفلسفات والشرائع".

ووصفت المؤلفة تلك الرؤية "بالنظرة البسيطة.. وهي بسيطة لأنها لا تدخل في تفاصيل تحدد ما المقصود ابتداء بعلوم التمدن، وما هي آليات واستراتيجيات تفكيكها وفصل الفلسفي عن العلمي، وكلاهما غير منفك عن الآخر، وما هي العلوم التي يقوم عليها التمدن، ما هي فروعها – والفروع الآن تزايدت وتنوّعت وانفصلت عن علوم جديدة ومستحدثة.. لتحكم على أن مشكلة ذلك الخيال هي التعميم، فضلا عن عدم الدراية بخريطة العلم وتغيراتها التي لا يمكن تطوير رؤى إسلامية فيها إلا باجتهاد جماعي..".

فضاء المرجعيات وحدود الخيال

توظف المؤلفة ثلاثة مداخل لتحليل النصوص التي تعكس خطاب الإسلاميين وفهمها وتفسيرها في مساحة المنار الجديد، وتلك المداخل هي:

1. تلمس ملامح النسق المفاهيمي الذي تعكسه النصوص.

2. فهم هذا النسق وخصائصه باعتباره انعكاسا لفضاء نصوص أكبر على نصوص مرجعية حاكمة ومهيمنة تحكم الذهنية والخيال وتؤطرهما.

3. بيان أهمية هذه النصوص ودرجة عمقها بقياسها على فضاءات أخرى وعلى الواقع المتغير حتى يمكننا أن نقوِّم هذه النصوص في لحظة تاريخية ما...

من أهم الملاحظات التي خلصت إليها المؤلفة من خلال توظيفها لتلك المداخل:

- مركزية "أسطورة" الدولة الإسلامية: "أسطورة" الدولة العلمانية في تصورها الإسلامي هي أخطر ما يواجه الخيال السياسي للإسلاميين، وما يحجم أفقهم هو سعيهم – من دون تبصر لإعادة التأسيس للرابطة السياسية الإسلامية على قاعدة الدولة الحديثة التي تقوم على مصادرة وتقويض مفهوم الجماعة والأمة والناس الإسلامي التعددي..

- غلبة الخطاب السياسي التشاوري على التصور "الاجتهادي الجدلي"، وحين يغيب الاجتهاد النظري والفهم المعرفي المركب للواقع، لا نتعجب أن يحاول الخطاب إثبات احترام الإسلام "حقوق الإنسان" بالمعنى الفرداني من دون تأصيل لتركيب علاقة الخاص – العام، والفرد – الجماعة إسلاميا.. وهي تشير بذلك إلى قصور الاجتهاد النظري التأصيلي لدى الحركات الإسلامية والعاجز عن تأصيلها في "نظرية مختلفة للعمران والدولة، وهي المهمة الأخطر والأولى التي عجز الخيال السياسي الإسلامي عن إدراك خطورتها وأولويتها".

- كلية النظرة إلى الآخر – الغرب وتعميمها، وغياب النظر إلى الآخر الجنوب والشرق، فالآخر هو الاستعماري الصليبي، هو الغربي في الأساس، وداخل هذه النظرة لا توجد تنويعات إلا نادرا، حتى الديني داخل النسق العلماني هو معادٍ وأصولي كالمسيحية الصهيونية، والإعلام المتحيز، والانتخابات الديمقراطية لعبته التي نحتار: هل نشارك فيها لحماية مصالحنا كأقلية أو نعتزلها...

- غلبة المركزية العربية وغياب المتابعة للحركات أو المجتمعات أو الأفكار الإسلامية غير العربية، فلا يناقش مشكلات الإسلام في أفريقيا وطبيعة الحركات ومستقبل العمل الإسلامي البتة...

- غياب النظرة المقارنة والاطلاع على الفكر الغربي في أدبياته الأصلية أو التعرف إلى خطابات المراجعة النقدية داخل الليبرالية، فالحكم العام على سياسة الغرب الخارجية بمسعاها إلى الهيمنة في ظل العولمة، وفي الداخل بفساد الأخلاق، كانا حجابا بين الخيال الإسلامي وفهم تركيب الديمقراطية الغربية، ومساحات النقص والنجاح في بنية الديمقراطية وتلمس تجارب المراجعة..

ثمة ملاحظات أخرى هامة سجلتها الدكتورة هبة في سياق تحليلها لنصوص الإسلاميين المنشورة على صفحات "المنار الجديد"، لكن ما يؤخذ على الدراسة برمتها أنها أغفلت دراسة فكر حزب التحرير الإسلامي، الذي يعد أكثر الاتجاهات الإسلامية اشتغالا بالسياسة، وكتبه وأدبياته منشورة على مواقعه الرسمية المختلفة، ويمكن الاطلاع عليها بكل سهولة ويسر. 

فالحزب يعرف نفسه بأنه "حزب سياسي مبدؤه الإسلام.. فالسياسة عمله، والإسلام مبدؤه، وهو يعمل بين الأمة ومعها لتتخذ الإسلام قضية لها، وليقودها لإعادة الخلافة والحكم بما أنزل الله.." وله رؤيته ومشروعه في بناء الدولة وقيامها وفق تنظيرات مؤسسه الشيخ تقي الدين النبهاني، فكان حريا بالمؤلفة أن تتوقف عند مشروعه و"خياله" فيما قبل الدولة وبعدها، وتخضعه للدراسة والنقد والتقويم كغيره من الرؤى والأفكار الأخرى.

ومع أن هذا الكتاب صدر سنة 2015، إلا أن معظم مادته البحثية تتناول أفكار ورؤى وتصورات مرحلة ما قبل الربيع العربي، والتي تصلح بمجملها لمعرفة أسباب الخلل في رؤية الإسلاميين الحاكمة لخيالهم السياسي، والتي آلت إلى تعثر مسار الحركات الإسلامية في إدارة الدول التي تسلمت فيها زمام السلطة، إما لقصور ذاتي في بنيانها الفكري وأدائها العملي، وإما لشراسة قوى الدولة العميقة التي نجحت في مكرها وخداعها ما أفضى في المحصلة النهائية إلى إجهاض تجارب الإسلاميين في السلطة والحكم.