كتاب عربي 21

تصريحات اقعيم: السياق والمآلات والمخرج من المأزق

1300x600
الحروب عندما تطول لا يكون للانتصار فيها طعم، ولا لغلبة طرف على آخر معنى، لأنها تكون قد جذرت وضعا إنسانيا مأساويا، وبذرت نواة لصراعات جديدة وربما حروب ممتدة بسبب ما صنعته الحرب الأولى من  أشكال جديدة وكيانات مُستحدثة، بالقطع لن تكون منسجمة بعضها مع بعض، وستقاوم كل مسعى لتحجيمها أو تقزيمها، فضلا عن دمجها أو حلها بعد أن تضع الحرب أوزارها.

ما سبق توصيفه كان ديدني في العديد من المقالات التي كتبتها بعد إطلاق عملية الكرامة منتصف 2014، وقلت في بعض مقالاتي التي ناقشت تطورات الأحداث وقتها أن التنافضات داخل عملية الكرامة والتركيبة التي تكونت منها هجينة، ومصالح المؤسسين لها ليست واحدة ويمكن أن تقود إلى اختلالات، وربما صراعات تفوق خطورتها الأسباب التي من أجلها وجدت الكرامة، وهي محاربة الإرهاب.

تصريحات اقعيم، آمر قوة المهام الخاصة، التي جاءت عقب قرار حل القوة من قبل السلطات الأعلى في المرج، إنما تشرح عمليا ما حاولت الدندنة حوله في السابق، غير أن المنتشين بعملية الكرامة عند إطلاقها، وأنا هنا أشير إلى أصحاب النوايا الطيبة والمعتقدين صدقا أن الكرامة ستخلصهم من كابوس جاثم على قلوبهم وخطر يتهددهم ويهدد مستقبل أولادهم، لم يستمعوا للنداء ولم ينتبهوا للتحذير، بل ربما كان موقف بعضهم حادا وردة فعلهم تجاه التحذير عدوانية، وذلك دون أن يتجشموا عناء النظر في ما قيل، وتقليبه بعين العقل.

تصريحات اقعيم لم تكن مجرد ردة فعل آمر جهاز على قرار إداري متعسف، بل هو  تعبير عن حالة التناقض التي أشرنا إليها سابقا، وعن ظهور التناقضات على السطح بعد أن كانت مغيبة في زحمة الحرب وتحت مظلة الحماس والشعور بخطر الخصم.

تصريحات اقعيم حوت تهديدات عن كشف حقائق لها ارتباط بالأسباب التي اندلعت الحرب لأجل احتوائها وتأسست من أجلها عملية الكرامة، وهي الاغتيالات والخطف، وقطع اقعيم الطريق على إمكان تكرار التبريرات والأعذار بقوله، إن الاغتيالات وقعت وتقع في المناطق التي يسيطر عليها الجيش، وإن هناك ما يزيد عن مائة حادثة يتورط فيها من ينتسبون إلى الكرامة، ويخضعون للقيادة العامة للجيش في المرج.

خطورة ما أظهره اقعيم من انقسام وصراع ربما سيكون حالة متكررة لأجسام عدة صغيرة وكبيرة، تشمل الكتائب التي تأسست حديثا خلال عملية الكرامة في أحياء بنغازي، وصار لها وزنها العسكري ونفوذها الذي ستقاتل بشراسة لأجل الحفاظ عليه، والرد الطبيعي على أي قرار بحلها بعد انتهاء الحرب هو الرفض؛ لأنهم سيعتبرونه تطاولا وتجنيا عليها، فهم يعتبرون أنفسهم المحررين وليست القيادة، وهم من كانوا يواجهون الرصاص والألغام ويواجهون الموت طيلة عامين، فيما كانت القيادة تتنعم بظل المكاتب، وتتفيأ ظلال المنتجعات في شرم الشيخ، كما تكرر حرفيا على لسان بعض القادة الميدانيين في بنغازي، وربما سنرى تحالفات جديدة داخل مدينة بنغازي على أسس مختلفة ومصالح خاصة، لترسم ملامح الخريطة السياسية والأمنية لما بعد الحرب.

من المنطقي جدا أن يسأل سائل: إذا كانت الجرائم بهذا الحجم والشواهد عليها قطعية ويعلمها أصحاب الحقوق من أنصار الكرامة قبل غيرهم، فلماذا السكوت عنها، ولماذا لم يحصحص الحق ويُكشف الجناة للرأي العام ويقدموا للعدالة في الداخل، وإذا تعذر ذلك، تُقدم أسماؤهم لمحكمة الجنايات الدولية؟

والجواب يتمحور حول نقطتين؛ الأولى تتعلق بأسباب الإعلان عن هذه الجرائم، فمن تحدثوا بها إنما أردوا ممارسة الضغوط على خصومهم، وليس كشفها للتاريخ ولإحقاق الحق. أما النقطة الثانية فتتعلق بالتركيبة الاجتماعية ودور القبيلة التي يدفع النافذون فيها إلى تعظيم مصلحتها على الحقوق الفردية، فتسقط جرائم القتل ضد أبناء القبيلة، إذ كانت المصلحة كما يراها النافذون فيها تقتضي ذلك.

الخلاصة هي أن الحق ضائع في ظل هذه الصراعات، والمصلحة هي المغلبة، وأن الحق قابل للتمطيط والكبس بالقدر الذي تقتضيه المصلحة، وهي ليست مصلحة العامة، بل هي مصالح جهوية وقبلية وفردية، مما يعني أن المدينة مرشحة لمزيد من الصراعات، وإن لم تأخذ هذه الصراعات شكلا عنيفا ودمويا، وهو أمر محتمل جدا، فستقود تلك الصراعات إلى تفاهمات لا يمكن أن تقوم معها عدالة، ولا يتحقق معها أمن، وستكرس وضعا مأساويا في المدينة سيكون مريرا.

أما عن سبيل الفكاك من الوضع المأساوي المرتقب، فإنما يكون بحوار جاد وشفاف وجامع، ووفاق حقيقي بين مكوناتها الاجتماعية والسياسية، كان من المفترض أن يجري قبل إطلاق الكرامة، يقود الحوار والوفاق إلى تبني رؤية حداثية متقدمة، لا تعصب فيها لمنطقة أو قبيلة أو حزب أو فرد، إنما الغاية هي خروج المدينة من أزمتها واستقرارها ونهضتها.