قضايا وآراء

ما بين المواطنة ونظام الامتياز

1300x600
المناسبةُ شرطٌ، كما يُقال، ومناسبة كتابة هذا العمود ما تداولته بكثافة وسائل الإعلام المكتوبة، ومواقع التواصل الاجتماعي هذه الأيام في المغرب، حول المعاملات العقارية الخاصة بكبار موظفي الدولة، والمُقربين جدا من صُنع القرار، وأسماء قيادية في أحزاب سياسية، وعائلات ذات حظوة اجتماعية، وأشخاص غير مغاربة من أقطار عربية، وخليجية تحديدا.. اشتركوا جميعاً في الاستفادة من بقع عقارية للبناء ذات مساحات شاسعة بأثمان زهيدة، وفي موقع مُميز تابع للمجال الحضري للعاصمة الرباط، في ما يسمى قانونيا "تجزئة الزاهرية"، أو شعبيا تجزئة "خُدام الدولة".

لتوضيح الصورة للقارئ الكريم، نُشير إلى أن المقصود بـ"خُدام الدولة" في هذا المقام، الموظفون السامون، والشخصيات ذات "المكانة الاعتبارية" (السياسية والاقتصادية والمالية)، والمُقربون من صُنع القرار، الذين تقدّر الجهات ذات الصلة بأنهم قدّموا خدمات للدولة في المجالات والميادين التابعة لمسؤولياتهم، ويستحقون تالياً هذا النوع من الامتياز، أي الاستفادة من البيوعات العقارية بأسعار تفضيلية جدا، "إنصافاً وعرفاناً لجهودهم في خدمة الدولة ومؤسساتها". والحقيقة أن مرسوماً وزاريا صدر عام 1967، وتمت مراجعته سنة 1995، يستعمل في أحدى بنوده تعبير "تقديم خدمات للدولة". لذلك، واستناداً إلى أحكامه تمَّ إجراء البيع بدون احترام كامل للإجراءات الشكلية المألوفة والمطلوبة في عمليات من هذه الطبيعة والنوع. ثم إن شفافية الإجراءات تقتضي نشر قائمة أسماء المستفيدين، وهو ما لم يحصل، إلى أن كشفت المستورَ مواقعُ التواصل الاجتماعي، وأخذت الأخبارُ تسري كالنار في الهشيم، وظلت تفاعلات القضية متصاعدة ومستمرة، وربما ستبقى كذلك خصوصاً وأن المغرب يشهد حرارة سياسية في أفق الانتخابات التشريعية المنتظر تنظيمها في سابع تشرين الأول/ أكتوبر 2016.

لم يكن لافِتاً للانتباه بالنسبة إليّ شخصياً السَّبق الإعلامي في حدِّ ذاته، ولا يعنيني كثيرا التساؤل عن الطريقة التي بواسطتها تمَّ بيعُ واقتناءُ البُقَع العقارية، ولا أسماء المستفيدين منها، ولا حتى المبررات التي تمَّ الالتفاف عليها للقيام بهذه المعاملات.. لاقتناعي بأن الأمرَ واضح، وأدرِك تمام الإدراك حصولَه في المجتمعات التي لم تتوطّن بعد في ثقافتها السياسية قيم التكافؤ، والاستحقاق، والمساءلة والمحاسب، أو على الأقل ما زالت تجهد من أن أجل المصالحة مع هذه المصفوفة من القيم، كما هو حال المغرب. ما لفتَ انتباهي أكثر اللغة المستعملة في هذه الواقعة، وما توحي به من قضايا يهم المغاربة التواقين إلى رؤية بلدهم يقطع مع سياسة الريع السياسي والاقتصادي، ويكرِّس قيمة المُواطنة في ربوعه، وبين كافة مكوناته، أن نفكر فيها بعمق، ونتحاور حولها، ونُعالجها بمسؤولية.

لعل أول تعبير مثير للانتباه في هذه الواقعة كلمة "خُدام الدولة".. وتكمن غرابة هذه التسمية في إقامتها تمييزاً واضحا بين فئتين من المغاربة: "خُدام الدولة"، والذين لا يقدمون لها خدمةً من بني جلدتهم، والحال أن هذا الوصفُ مُضلِّل وخطير على تماسك البناء الاجتماعي والمدني للمغرب. فالأصل أن "الكل يخدمُ الدولة.. والدولةُ خادِمةُ الجميع"، مع اختلاف طبيعة الخدمة ودرجات المسؤولية. إن مشروع بناء مجتمع الحَداثة الذي تنشُده السلطات العليا، ويتوق المجتمع إلى تحقيقه، يرفض استمرار مثل هذا التفكير - الذي لمصالح ضيقة لا صلة لها بالأفق الوطني العام الذي تجهد القوات الحية والنزيهة في البلاد من أجل إدراكه - يعوق تكريس مفهوم الحداثة وحُمولاتها الاجتماعية والسياسية والثقافية، ويُرجع المغرب إلى الوراء.. فهو، بكل المقاييس، نمط من التفكير مُناقض لمنطق الدولة نفسها، ومناهِض لمصالحِها الاستراتيجيةِ البعيدة.

إلى جانب التضليل الوارد في تعبير "خُدام الدولة"، تطرح حيثيات تجزئة "خُدام الدولة" سؤالاً وجودياً عن أفق تطور المغرب، ومستقبل مشاريعه الإصلاحية الكبرى. والواقع لم يعد مقبولاً السير بإيقاعين في المغرب، أو العيش بخطابين: خطاب المسؤولية والمحاسبة، ودولة القانون والمؤسسات، وفي الآن معا قبول حصول مثل هذه الممارسات المقوِّضة تماماً لأسس خطاب الحداثة.. لأن تعايش خطابين متناقضين ومتنافرين يُضعف الدولة، ويُصيب البناء الإجتماعي للهشاشة، ويُفشل كل عمليات الإصلاح والتغيير.. الحكمة تقول أن على المغرب أن يفصل في اختياره، والراجح أنه فصل دستورياً وتعاقديا في اتجاه تكريس "الاختيار الديمقراطي"، حين ارتقى به في الوثيقة الدستورية لعام 2011 إلى مرتبة "الثابت الوطني"، أسوة بثوابت "الإسلام والوحدة الترابية والملكية".

لذلك، فإن كل تردد أو تجاهل أو تساهل مع عودة زمن الريع السياسي والاقتصادي إلى الحياة العامة المغربية سيضر بالمصالح الاستراتيجية للبلاد، وسيؤخر اندفاع المغرب، دولة ومجتمعا ، في استكمال البناء الحداثي لكيانه السياسي والاجتماعي. صحيح أن مشروع تكريس الحداثة في المغرب يواجه إرثاً ضخماً وقوياً من الممارسات المشينة، وصحيح أن مقاومات البناء متعددة وكثيرة وعابرة للفئات الاجتماعية، لكن الأصح وألاسلم لنماء المغرب وتقدمه واستقراره أن ينجح في معركة مقاومة الريع بكل أنواع وأشكاله، وأن يوسع دائرة تأييد تشييد دولة المواطنة، والقضاء على نظام الامتياز. الذي نخر ثروات البلاد لعدة عقود.. إن المغرب الممكن والمأمول لا يمكن أن يكون إلا مغربا يؤوي الجميع، ويتسع لكل الفئات والشرائح، مغربا يكون الفيصل فيه لحكم القانون والعدالة الاجتماعية.