مقالات مختارة

لماذا انتشر الفساد في زمن العولمة؟

1300x600
أينما صوبت عينيك في كل أصقاع الكرة الأرضية ترى هذا العناق بين السياسة والمال، الذي أصبح يعرف في «أجروميات» الدول، وفي عصر العولمة الليبرالية الجديدة الراهن بالذات باسم واحد هو «الفســـــــاد». 

وفيما كانت آفة الفساد تقتصر في الماضي على دوائر بعينها في هذا البلد أو في ذلك الركن من خارطة العالم، فإنه مع تزايد المناداة بتطبيق برامج الإصلاحات الهيكلية، وسياسات الانفتاح الاقتصادي من جانب المؤسسات الدولية المانحة (صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية)، والنشاط الذي يبذل من أجل تصعيد القدرة التنافسية للمنتجات، ومع تزايد حرية حركة تنقل رؤوس الأموال، ونشاط غسيل الأموال والجريمة المنظمة- اتسع الفساد إلى حد الاستشراء في جميع أنحاء العالم، وأصبح السمة المميزة الموجودة في الدول الغربية ذات الأنظمة الديمقراطية العريقة، وكذلك في الأنظمة الديكتاتورية والشمولية المنتشرة في بلدان عالم الجنوب، ولدرجة أن دخل قاموس السياسة الدولية مصطلح «الفساد العولمي» (أو الفساد الكوكبي).

والحقيقة أن الفساد ازداد بصورة كبيرة جدا في زمن العولمة، التي اعتمدت على السياسات الليبرالية الجديدة، وألغت الحواجز والحدود أمام حركات تنقل السلع ورؤوس الأموال، وتحولت إلى حركة تاريخية مضادة اقتلعت الأفكار الاشتراكية والديمقراطية ومبادئ العدالة الاجتماعية التي طغت طيلة القرن العشرين، وسحبت المكاسب التي حققها العمال والطبقة الوسطى، وانتهت بالتوقيع على منظمة التجارة العالمية (الجات) التي تولت توقيع العقوبات على من لا يذعن لسياسة حرية التجارة.

فبعد أن أدّت العولمة المستندة إلى الفلسفة الليبرالية الجديدة، بتحرير الأسواق المالية والنقدية، والتخلي عن معظم الضوابط التقليدية التي كانت تسيّر العمل المصرفي والنظم النقدية لعهود طويلة، وهي العمليات التي سرعان ما أجبر صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، مختلف بلدان العالم على تطبيقها، بإطلاق سعر صرف عملتها، وانفتاحها التام على السوق النقدي والمالي العالمي، إلى انصهار مختلف الاقتصادات القروية والوطنية والإقليمية في اقتصاد عالمي رأسمالي موحد، وبعد أن غدا العالم «سوقا واحدة، وقرية كونية متشابهة» ينمو ويتلاحم بجميع أجزائه، تحولت بلدان العالم إلى رهينة في قبضة حفنة من كبار المضاربين الذين يتاجرون بالعملات والأوراق المالية، مستخدمين في ذلك مليارات الدولارات التي توفرها البنوك وشركات التأمين وصناديق الاستثمار الدولية.

وفي ظل توسع وانتشار قوانين العولمة الليبرالية، وما آلت إليه من حركية في الأسواق الحرة والأموال الأجنبية، وما صاحب ذلك من انعدام في الرقابة ومنه الانحلال في القيم والأخلاق وانتشار لسلوكيات اللا معيارية، التي هدفها الوحيد هو الوصول إلى المادة والبحث عن الرفاهية، انتشرت ظاهرة الفساد عبر المجتمعات، واستفحلت من خلال نقل أفكار وقيم المنفعة إلى شعوب العالم قاطبة، لا سيما إلى دول الجنوب، بإخضاعها لتحولات اقتصادية واجتماعية وثقافية، وهي على مظهرها المعروف تمثل رسملة العالم، أي أن العولمة عملية يراد منها نشر مبادئ النظام الرأسمالي وفرضه على عامة الأساليب الاقتصادية التي تتبعها المجتمعات الأخرى. وتمثل مؤسسات المالية والاقتصادية كصندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية وشركات متعددة الجنسيات مؤشرات العولمة وحقل تطبيقها، كما أن نظام الدولة القومية وانتشار منظمات وقوانين الحرية والديمقراطية هي مؤشر آخر لعصر العولمة هذا.

ولهذه العولمة آثار سلبية بات العالم بأسره يعاني من ويلاتها منها انتشار الجريمة المنظمة والفساد الإداري وجرائم المخدرات والعنف والإرهاب والانحلال الخلقي، وضعف قدرة النظام الداخلي (أي انهيار الدولة القومية) وأزمة المديونية، وارتفاع معدلات الهجرة وازدياد عدد من هم تحت خط الفقر، بل وقسم المجتمع إلى طبقتين واضحتي المعالم تتباعد المسافات بينهما ويزداد الصراع حدة بين مصالح كل فئة اجتماعية. وفيما يرى البعض أن العولمة تمثل الرأسمالية الجديدة المنطوية حول عولمة الاقتصاد بوصفها «نظام اقتصاد السوق الحرة»، فإنه مع نمو العولمة الليبرالية الجديدة، ازداد تركيز الثروة، وتعمق التفاوت واللا مساواة في توزيع الدخل بصورة فاضحة، واتسعت الفروقات بين الفئات الاجتماعية والدول اتساعا لا مثيل له، كما أن الآفات الاجتماعية عمت المحيط بما فيها الفساد الاجتماعي.

في عصر عولمة الليبرالية الجديدة، أصبح الفساد هيكليا ومنتشرا دوليا. كما أصبحت ممارسته شائعة معتادة جنبا إلى جنب مع غيره من أشكال الإجرام المفسدة كالاختلاس والتلاعب في العقود العامة، وإساءة استعمال الصالح الاجتماعي، وخلق الوظائف الوهمية، والغش الضريبي، وغسل الأموال، وما إلى ذلك. 

كل ما سبق يؤكد أن الفساد هو الركيزة الأساسية للرأسمالية. فوفقا للبنك الدولي، بلغ حجم التدفق السنوي لأموال الفساد والأنشطة الإجرامية والتهرب من الضرائب رقما مذهلا قدره 1.6 تريليون يورو، تمثل منها عمليات التهرب من دفع الضرائب في الاتحاد الأوروبي وحده ما يقرب من 250 مليار يورو. فلو أعيدت هذه الأموال الطائلة للاقتصاد المشروع لأمكن تجنب خطط التقشف الحالي والتعديلات الهيكلية التي تعيث فسادا في المجتمع.

والآن أكثر من أي وقت مضى، ينبغي لأي زعيم أو حاكم ألّا ينسى أن الديمقراطية هي قبل كل شيء مشروع أخلاقي يرتكز على الفضيلة وعلى نظام القيم الاجتماعية والأخلاقية التي تغذي لب ممارسة السلطة. ففي كتابه الذي نشر بعد وفاته، والذي لا غنى عن قراءته، يقول خوسيه فيدال بينيتو: «تنسق القوى السياسية الرئيسية فيما بينها لخداع المواطنين، وفي وئام تام كوئام المافيا. والنتيجة هي زعزعة الديمقراطية، ورفض السياسات، وتزايد الامتناع عن التصويت، بل وما هو أخطر من ذلك، نمو اليمين المتطرف». ويخلص الكاتب إلى أنه «تنمو الحكومات المعطوبة بالفساد. وعندما تتلطخ الديمقراطية بالفساد، تصبح الديمقراطية فاسدة» هي ذاتها.

الشرق القطرية