بورتريه

حلب.. مخاوف من سقوط "متوقع" في جحيم المذبحة (بورتريه)

حلب
أخرجت بيوتها وطرقاتها وأسواقها العتيقة، الشعراء أبا الطيب المتنبي، وأبا فراس الحمداني، وعمر أبو ريشة، وأيضا سليمان الحلبي قاتل الجنرال كليبر قائد القوات الفرنسية أثناء احتلالها مصر، وإبراهيم هنانو أحد قادة الثورة السورية ضد الاحتلال الفرنسي.

وهي مدينة الغناء والموسيقى والقدود الحلبية، وعاصمة الطرب الأصيل في الوطن العربي، وهي موطن الموشح الديني والمديح النبوي.

 هي مدينة المطرب صباح فخري وصبري مدلل وأيضا مدينة العالم الإسلامي مصطفى الزرقا، ومخرج فيلم "الرسالة" مصطفى العقاد.

مدينة التجارة والمطبخ الفريد في بلاد الشام قاطبة، حتى أن الحلبيين ابتكروا أكثر من 17 نوعا من أنواع الكبة المشهورة في الديار الشامية.

ازدهرت لقرون بوصفها أكبر المدن السورية وثالث مدينة في الدولة العثمانية بعد اسطنبول والقاهرة.

 تعرضت للكوارث على مدى تاريخها وكان أكثرها قسوة عام 1138 بزلزال دمرها والمناطق المحيطة، ويصنف على أنه الزلزال الخامس من بين الزلازل التاريخة الأشد دمارا في العصور القديمة.

وغزاها المغول أكثر من ثلاث مرات وتعرضت من قبل المغول تحت قيادة هولاكو إلى مذبحة وحشية، وعاثوا فيها فسادا وتدميرا في الجوامع والأسواق، وهرب السكان نحو دمشق، وفي عام 1400 قام القائد المنغولي تيمورلنك بأسر المدينة وذبح الكثير من السكان، ويقال بأنه أمر ببناء تلة من جماجم السكان استخدم فيها 20 ألف جمجمة.

وحوصرت حلب مرتين أثناء الحروب الصليبية عامي 1098 و 1124 إلا أن الجيوش الصليبية لم تتمكن من احتلالها لمناعة تحصينها. 

ومن الشواهد على ذيوع صيت حلب ذكرها مرتين في قصص ومسرحيات ويليم شكسبير في "ماكبث" وفي"عطيل".

تعد حلب أقدم مدينة في العالم وكانت مأهولة بالسكان في بداية الألفية السادسة قبل الميلاد، وكانت المدينة عاصمة لمملكة يمحاض الأمورية، وتعاقبت عليها بعد ذلك حضارات عدة مثل الحثية والآرامية والآشورية والفارسية والهيلينية والرومانية والبيزنطية والإسلامية.

فتحت مدينة حلب بقيادة خالد بن الوليد عام 637، لتشكل جزءا من الدولة الأموية ومن بعدها العباسية، وفي عام 944 غدت عاصمة الدولة الحمدانية تحت حكم سيف الدولة الحمداني، وعاشت المدينة عصرا ذهبيا أيام سيف الدولة وكانت أحد الثغور الهامة للدفاع عن العالم الإسلامي في وجه المد البيزنطي.

 وربما يرجع سر المدينة وإغراء غزوها من قبل إمبراطوريات عدة إلى كونها نقطة تجارية إستراتيجية في منتصف الطريق بين البحر الأبيض المتوسط وبلاد ما بين النهرين، وفي كونها في نهاية طريق الحرير الذي يمر عبر آسيا الوسطى وبلاد ما بين النهرين.

ومع بداية القرن العشرين تلقت حلب أكبر الضربات، فعند سقوط الخلافة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى سلخت عن حلب أجزاؤها الشمالية التي ضمت إلى تركيا عام 1920 بالاتفاق بين مصطفى كمال أتاتورك وسلطات الانتداب الفرنسي.

وحددت معاهدة "سيفر" مقاطعة حلب كجزء من سوريا، بينما تم وعد الأرمن بتحقيق استقلال هضبة أرمينيا من قبل فرنسا في المعاهدة الفرنسية الأرمنية المبرمة عام 1916، لكن أتاتورك رفض هذه المعاهدة واستمر بضم حلب والأناضول وأرمينيا إلى تركيا.

ومع عقد معاهدة "لوزان" تم انتزاع معظم مقاطعة حلب باستثناء حلب نفسها ولواء الإسكندرونة، وسلخت حلب عن الأناضول ومدنه التي كانت تضمها علاقات تجارية مكثفة، الأسوأ من ذلك، كانت معاهدة "سايكس – بيكو" التي قسمت بلاد الشام وفصلتها عن العراق.

وأدت اتفاقية "سايكس بيكو" إلى كساد وتدهور كبير في اقتصاد حلب، وفي عام 1940 فقدت حلب إمكانية وصولها إلى البحر بعد خسارتها لمنفذها الرئيسي على البحر المتوسط في الإسكندرونة، وجعل مدينة دمشق عاصمة لسورية.

ورغم كل هذه الضربات، بقيت هذه المدينة عاصمة اقتصادية لسوريا، فهي تضم أهم المعامل الصناعية وهي أيضا تشكل مركزا للمناطق الزراعية في سوريا، وخاصة زراعة القطن الضرورية لمعامل النسيج المزدهرة في المدينة.

ولا يمكن ذكر الفن والفكر والشعر في الوطن العربي دون ذكر حلب، ومن أبرز الفلكيين والرياضيين الذين ظهروا في عصر الحمدانيين أبو القاسم الرقي، والمجتبى الإنطاكي وديونيسيوس وقيس الماروني، كما عُني الحمدانيون بالعلوم العقلية كالفلسفة والمنطق، فلَمع تجمع عدد كبير من الفلاسفة والمفكرين الإسلاميين في بلاط الحمدانيين، مثل: الفارابي، وابن سينا. أما في مجال العلوم العربية؛ فقد ظهر عدد من علماء اللغة المعروفين، مثل ابن خالويه، وأبو الفتح بن جني، وأبو على الحسين بن أحمد الفارسي، وعبد الواحد بن علي الحلبي المعروف بأبي الطيب اللغوي.

كما لمع عدد من الشعراء المعروفين، مثل أبي الطيب المتنبي، وأبي فراس الحمداني، والخالديين: أبي عثمان، والسرى الرفاء والصنوبري، والوأواء الدمشقي، والسلامي والنامي. وظهر كذلك عدد كبير من الأدباء المشهورين، وفي طليعتهم أبو الفرج الأصفهاني صاحب كتاب "الأغاني"، وابن نباتة، وقسطاكي الحمصي الشاعر والمؤرخ، وظهر أيضا بعض الجغرافيين، مثل، ابن حوقل الموصلي صاحب كتاب "المسالك والممالك".

وتشتهر حلب بالفرق الموسيقية الحلبية التقليدية التي تقوم بغناء الموشحات الدينية والقدود، ويشتهر قاطنو مدينة حلب بولعهم بالطرب والغناء والموسيقى وهي تعتبر عاصمة الطرب الأصيل في الوطن العربي. وكانت مهد النشيد المعاصر، الذي تميز بالمديح النبوي والالتزام، وكان أشهر رواده أبو الجود محمد منذر سرميني والترمذي والمنشد محمد أبو راتب.

ومن مشاهير حلب، الشاعر عمر أبو ريشة، ومصطفى السباعي أحد أشهر مجددي القرنِ العشرين، وعبد الفتاح أبو غدة من مشاهير المحققين، وعبد الرحمن الكواكبي أحد قادة النهضة العربية، وسعد الله الجابري أحد أشهر سياسيي سوريا في القرن العشرين، ومحمد نجيب سراج الدين عالم موسوعي، وعبد الله سراج الدين عالم متخصص في الحديث الشريف.

وشاركت حلب بقوة في الحياة السياسية ما بعد الاستقلال، فكان أول رئيس حكومة وطنية من حلب هو سعد الله الجابري، وبعد فترة تبعه ناظم القدسي ومعروف الدواليبي، وأخر رئيس حكومة من مدينة حلب كان محمد ناجي عطري.

والحلبي الوحيد الذي وصل إلى منصب رئيس الجمهورية هو أمين الحافظ بدعم من حزب البعث في تموز / يوليو عام 1963. 

كما نشأت في حلب عدة حركات سياسية مثل "حزب الشعب" عام 1948 بقيادة رشدي كيخيا وناظم القدسي الذي اتخذ من مدينة حلب مقرا رئيسا له.

كما تأسست فيها جماعة "الإخوان المسلمين" السورية في عام 1937، وعانت المدينة من النزاع بين "الأخوان المسلمين" والحكومة السورية بقيادة الرئيس حافظ الأسد بين عامي 1979 و1982 ويعتقد بأنها ثاني مدينة سقط فيها قتلى ضمن المذابح التي ارتكبها النظام أثناء هذا النزاع بعد مدينة حماة.

والتحقت حلب بموجة الاحتجاجات ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد في وقت متأخر، مقارنة ببقية المدن، ففي حين اندلعت الاحتجاجات الأولى في سوريا في منتصف آذار/ مارس عام 2011 في مدينة درعا، التحقت حلب بها في منتصف نيسان/ أبريل من السنة نفسها، انطلاقا من ساحات الجامعات.

ووسط تواصل قصف النظام السوري والطيران الروسي على الأحياء الشرقية في مدينة حلب والتي تسيطر عليها المعارضة، وفي ظل المجازر الجماعية بحق المدنيين الذين تركوا يواجهون مصيرهم تحت حمم القصف الكثيف، وضرب المدينة بالصواريخ والبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية تبرز المخاوف من سقوط المدينة "معقل الثورة".

وكانت بداية المعارك الأولى في حلب بين النظام السوري والمعارضة السورية، في تموز/ يوليو عام 2012، وتحديدا في الجزء الشرقي من المدينة.

 فبعد فشل قوات النظام في ردع القوات التي يمثلها الجيش السوري الحر، شن النظام قصفا وحشيا خلال أيلول/ سبتمبر من العام نفسه. وأصبحت مدينة حلب مقسمة إلى جزءين: النظام السوري في الجزء الغربي، والمعارضة في الجزء الشرقي.

وبدأ هجوم قوات النظام السوري على مدينة حلب، بدعم من حلفائه الروس والإيرانيين، في شباط/ فبراير عام 2016. ومنذ هذا التاريخ، قطعت قوات النظام الطريق التي تزود المناطق التي تسيطر عليها المعارضة بالإمدادات.

وشكل القصف الجوي على حلب في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، تاريخا جديدا لمحو المدينة ونقل وتشريد سكانها منها وفق استراتيجية القصف العشوائي والإرهاب والتدمير، ووصف ممثل للأمم المتحدة الوضع بأنه "سقوط في الجحيم".

سقوط جلب فشل ذريع للأنسانية، وستنضم حلب إلى القائمة سيئة السمعة من المدن التي أصبحت مرتبطة بالجرائم الجماعية، التي ارتكبت أمام نظر العالم وتحت سمعه مثل سبرينتشا وغروزني والأنبار والموصل.