قضايا وآراء

فساد الطبقة السياسية الفرنسية

1300x600
تعيش الحياة السياسية الفرنسية، وهي على مقربة من الإنتخابات الرئاسية المنتظر تنظيمها الربيع القادم، على وقع فضيحة فساد طالت مرشح " الحزب الجمهوري" اليميني المحافظ " فرانسوا فيون"، في شخص زوجته " بينيلوب فيون" Penelope Fillon، المتهمة بتسلم ما يقرب من المليون يورو نظير العمل البرلماني الذي لم تقم به على امتداد سنوات عديدة، حين كانت مساعدة لزوجها، النائب في الجمعية الوطنية، أو حين حل محله نائب آخر في الهيئة التشريعية ذاتها.

وقد تزامن هذا الحدث مع دخول الإعداد للإقتراع الرئاسي مراحله الأخيرة، ليخلق أزمة سياسية من عيار كبير في صف اليمين ووسط اليمين الفرنسي، وليفتح الباب أمام صراع القوى المتنافسة من داخل اليسار واليمين المتطرف.

صحيح أن تزامنَ فضيحة "بينيلوب فيون" مع حرارة التنافس على قصر الإليزيه قد يطرح أكثر من تساؤل عن المقاصد الحقيقية من هذه الواقعة، وما أساسها وصدقيتها، وهو ما شرع القضاء الفرنسي في تجميع الأدلة في شأنه، لكن الواقع أن ملف "بينيلوب فيون" لا يعدو أن يكون حلقة في سلسلة حلقات فساد الطبقة السياسية الفرنسية،  الذي ما انفك القضاء يتصدى له منذ سنوات عديدة. 

يُسجل للقضاء الفرنسي انتصاره المستمر  لضمان الحقوق والحريات، وتعزيز حماية الديمقراطية، والسهر على عدم  إساءة استعمال المال العام، أو توظيف المال الخاص من أجل إفساد الحياة السياسية، وله في هذا المضمار سجل حافل من التحقيقات والأحكام التي طالت رؤوسا وازنة داخل الطبقة السياسية بمختلف ألوانها واتجاهاتها.

فقد حقق مع رؤساء سابقين، ووزراء وسياسيين ورجال أعمال على صلة وثيقة بالطبقة السياسية، ومديري مؤسسات كبرى، مثل البنك الدولي وغيره. لنتذكر  تحقيقه مع الرئيس السابق " نيكولا ساركوزي" بشأن اتهامه بتسلم أموال من مالكة شركة  العطور الفرنسية الشهيرة " لوريال  ليليان بيتانكور"، وأيضا من الرئيس الليبي " معمر القذافي"، قصد دعمه في حملته الإنتخابية لعام 2007، التي قادته إلى مؤسسة الرئاسة الفرنسية.

ويحقق القضاء أيضا مع الرئيس نفسه( ساركوزي) في دوره المحتمل في تشكيل لجنة تحكيم خاصة  سمحت لرجل الأعمال الفرنسي " برنار تابييه" بالحصول على تعويضات حكومية  قدرت ب 430 مليون يورو. كما سبق للقضاء الفرنسي التحقيق مع الرئيس الأسبق " جاك شيراك" بعد اشنباهه التورط في منح وظائف وهمية لحلفاء سياسيين في بلدية باريس حين كان عُمدة لها ما بين 1977 و1995. علاوة على تحقيقه مع وزيرة المالية السابقة  ومديرة صندوق النقد الدولي حاليا  " كريستين لاجارد"، في ملف اتهامها  بمنح أموال عمومية لرجل الأعمال سالف الذكر " برنار تابييه".

والواقع أن حلقات التحقيق في فساد الطبقة السياسية الفرنسية طويلة وغير متناهية، وقد طالت أشخاصا من خفيات سياسية واجتماعية متنوعة ومتعددة، كما أنها شملت دولا أجنبية ، كما حصل في موضوع بعض الصفقات التجارية والمالية، من قبيل صفقة بيع أسلحة للسعودية عام 1994، حيث حامت حولها شبهات الرشوة. 

الآن وقد شرع القضاء الفرنسي في التحقيق في ملف " بينيلوب فيون"، بعدما نشرت جريدة canard enchaine المبالغ المشتبه فيها، وأذاع الإعلام تسجيلا تُقر المتهمة من خلاله عدم اشتغالها في إدارة البرلمان عام 2007، كيف ستتطور القضية في قادم الأيام، وما هي المضاعفات الممكنة والمحتملة على ترشح " فرانسوا فيون"، ومن خلاله على اليمين الجمهوري والمشهد السياسي الفرنسي عموما؟.

 لاشك أن إتهام طيف من الطبقة السياسية الفرنسية بالفساد سيكون له ما بعده، وقد شرعت ذيول القضية في التمدد والإنتشار، بداية في داخل صف اليمين ووسط اليمين، ولاحقا على المشهد السياسي برمة مكوناته. فمهما كان اصرار  المرشح "فيون" قويا  بخصوص مقاومته الإتهامات والسير على طريق الإقتراع الرئاسي، فإن مؤشرات كثيرة تدل على احتمال تراجعه، إما بشكل إرادي، أو بضغط من داخل أنصار حزبه، لاسيما وأن قضية  زوجته عرضت  بيت الحزب الجمهوري إلى ما يشبه الانشقاق  الداخلي.

أما إذا تحققت فرضية استمرار " فيون" مرشحا على الرغم من التهمة الموجهة إليه عبر زوجته، فإن تصويت أعضاء حزبه ومناصريه لن يصب بالضرورة في رصيد هذا الأخير، بل قد يذهب إلى منافسيه عقاباً له. ثم يُتوقع أن تكون لملف إتهام " فيون" بالفساد المالي انعكاسا مُحققاً لصالح تقوية " اليمين المتطرف"، وإلى حد ما مرشح الإشتراكيين واليسار.

ففي الخلاصة، يمكن القول أن مظاهر فساد الطبقة السياسية الفرنسية ما زالت مستمرة وحاضرة، على الرغم من الدور الواضح لمؤسسة القضاء في محاربتها والتصدي لأصحابها، كما أن من المتوفع حصول تأثير عميق في المشهد السياسي الفرنسي عشية تنظيم الاقتراع الرئاسي الربيع المقبل.

فهل سيتخلى " فيون" عن ترشحه؟، ومن سيخلفه من داخل الحزب الجمهوري ، واليمين ووسط اليمين عموما؟، وهل سيتمكن الإشتراكيون من رص صفوف اليسار وتوحيد  مكوناته لمواجهة منافسة الإقتراع المقبل بقيادة " بنوا هامون؟، أم سيذهب اليسار منقسما إلى الاستحقاق الرئاسي المقبل؟.

وما حجم الربح الذي سيكسبه اليمين المتطرف من أزمة الفساد، علما أنه هو الآخر في قفص الإتهام بالفساد من قبل مؤسسات الإتحاد الأوربي؟.. إنها سلسلة الاسئلة الجاثمة على الإقتراع الرئاسي المقبل في فرنسا.. ما هو حاصل فعلا أن المشهد السياسي يعرف تموجات وتوترات عز ما شهد نظيرا لها من قبل.