كتاب عربي 21

القيم الأمريكية وترامب.. الحقيقة ووجهها!

1300x600
من الواضح أن الأجندة الإعلامية الأمريكية وما يتصل بها من مراكز بحثية ومؤسسات أكاديمية وأوساط داخل المؤسسة الأمريكية؛ قد فرضت نفسها على العالم مرة أخرى فيما يخص ترامب، هذه المرة في تناول قراره القاضي بمنع دخول اللاجئين ورعايا سبع دول إسلامية إلى أمريكا، تماما كما فرضت نفسها من قبل أثناء العملية الانتخابية بمراحلها المختلفة، حتى أن أحدا في هذا العالم -تقريبا- لم يتوقع فوزه أبدا.

قرار حظر دخول اللاجئين ورعايا الدول السبع، كان الأهم في السجال الأمريكي الداخلي، وقد عبّر هذا السجال عن نفسه في صور متنوعة، من أهمها المعركة القضائية التي خسرها ترامب، والمظاهرات المتعددة المناوئة له ولقراره هذا، وقد بدت الصورة وكأن ترامب حالة طارئة تماما على القيم الأمريكية.

سبق لي القول إن عودة القيم الغربية للسجال الداخلي الغربي، ضرورة تاريخية في مرحلة تحول تعيشها البشرية كلها، وذلك لأن هذه القيم اتخذت طابع الكونية مستندة إلى القوة المادية، المتمثلة في الإنجاز العلمي والعسكري والاقتصادي والسياسي، وهو أمر أدى إلى انقسام الشعوب والمجتمعات، ولاسيما تلك التي تمتلك إرثا تاريخيا وموروثا حضاريا وفكرة صلبة، قادرة على الصمود في مواجهة الحداثة الغربية وما ينبثق عنها.

وتولت القوى الغربية، بالاستناد إلى تلك الإنجازات، وفي استفادة من حقبة الاستعمار، ونتيجة للهيمنة على العالم، مهمة قيادة العالم، والتي يأتي في صلبها التبشير بتلك القيم، وفرضها على العالم، وحراستها، ومحاكمة البشرية إليها، سواء عبر أدوات القوة الناعمة، أو عبر أدوات القوة الصلبة، في صدور حقيقي عن مركزية عنصرية، ومحاولة مصادرة فعلية للتنوع البشري، وفي الوقت نفسه في نتيجة طبيعية للتدافع البشري، وغلبة منطق القوة.

ولأجل ذلك، ولأسباب أخرى، ينتقل السجال الأمريكي حول سياسات ترامب إلى مجالنا العربي والإسلامي، منقسما بين من يراهن على رسوخ التقاليد الأمريكية، ومن يعتقد أن هذه السياسات تعبير فظ ومكشوف عن الكامن في السياسات الأميركية، ويجد الفريق الأول في الفعاليات الأميركية المعارضة لترامب، ما يسخر من مقولة "الوجه الحقيقي لأمريكا"، وبالفعل أظهرت الأجندة الإعلامية الأميركية لنا جميعا، أن ترامب حالة طارئة، لا وجها فاضحا.

من الناحية الإجرائية، لم يكن قرار حظر دخول مواطني دول معينة، أو معتنقي دين معين، جديدا على السياسات الأمريكية، ومن ذلك القانون الذي أصدره تشستر آرثر عام 1882 ضد الصينيين، وحظر فيه دخول الصينيين أمريكا لعشر سنوات، وقد ظلّ يجري تمديد العمل بهذا القانون حتى عام 1943.

وإذا كانت سياسات ترامب ذات طابع عنصري، باستهدافها مواطني دول يدين أغلب سكانها بالإسلام، وهي دول ليست في حالة حرب مع أمريكا، ولم يستهدف مواطنوها أميركا بعمليات في العقد الأخير على الأقل، وجاءت بعد خطاب صريح معاد للإسلام، فإن ذلك القانون، الذي استمر العمل به 61 عاما، لم يكن بعيدا عن هذه الأجواء، سوى أنه استهدف الصينيين.

لقد جرى وصف الصينيين حينها بـ "الخطر الأصفر القادم من الشرق"، وهو وصف عنصري، كما أن القانون، والذي أقره الكونغرس، جاء للحد من العمالة الصينية التي تعاظمت في ظل ارتفاع معدلات البطالة الأمريكية، وهو أمر لا يبتعد عن شعارات ترامب الراهنة بخصوص العمالة الأجنبية.

يمكن الحديث عن العديد من قرارات حظر الدخول التي وضعها الكونغرس أو رؤساء أمريكيون، واستهدفت أعراقا أو أديانا أو أفكارا أو مواطني دول محددة، منها حظر دخول اليهود في الحرب العالمية الثانية، ومنع دخول الشيوعيين في العام 1950، ومنع دخول الإيرانيين بعد أزمة الرهائن، وأخيرا منع دخول العراقيين لمدة ستة شهور في فترة ولاية أوباما، وهذا فضلا عن الإجراءات الخفية التي تحول دون وصول مئات الآلاف من الراغبين في زيارة أميركا، لأسباب منها بلاد هؤلاء الراغبين وأديانهم.

بالتأكيد، يمكن اكتشاف العديد من الفوارق بين بعض تلك القرارات وقرار ترامب، والبحث في اختلاف السياقات والملابسات، كما أن عدوانية ترامب وعدائيته وعنصريته معلنة وصريحة وفجة، بما بنفي التفسيرات الأمنية لقراره، ولكن ما لا يمكن إنكاره، أن قرار الحظر الذي أصدره لم يكن الأول في تاريخ أمريكا، وأن أمريكا لم تزل تتعامل مع قيمها المعلنة بما يناسب مصالحها، وأمنها.

هذه الفجاجة، واحدة من الأسباب التي تجعل ترامب مزعجا بالفعل لأوساط داخل المؤسسة الأمريكية، حينما يضع أداؤه الاستعراضي القيم الأمريكية في موضع الشك، في حين أنه يمكن فعل الكثير، كما هو جار فعلا، دون إثارة الضجة التي أثارها، وهذا لا يعني أن ترامب ليس غريبا على السياسة الأمريكية من جوانب أخرى.

ولكن ليست هذه هي جوهر المسألة، فالدعاية الأمريكية، والغربية عموما، لا تقدم ديمقراطيتها منفردة عن مجمل قيمها، والتي يمكن إجمالها في منظومة "قيم حقوق الإنسان"، إلى درجة أن هذه المنظومة، وفي قلبها الديمقراطية، كانت من شعارات احتلال العراق (نشر الديمقراطية!)، وهي منظومة تعرّف حصرا، وتستخدم حصرا، وفق قواعد القوى الغالبة، التي صاغتها ومنحتها تعريفاتها.

يمكن هنا أن نستعرض عشرات الغزوات التي استباحت فيها أمريكا العالم، وملايين الانتهاكات لآدمية البشر، وأن نتذكر مئات الأبرياء الذين تقتلهم طائرات بدون طيار في أفغانستان واليمن، وأن نستعيد صور سجون أبو غريب وغوانتنامو، وأن نؤكد بأنها القوة الوحيدة في العالم التي استخدمت السلاح النووي.

وأنها القوة التي أدارت أكثر الانقلابات العسكرية في العالم على الديمقراطيات الصاعدة، والقوة التي تملك أجهزة استخبارات غارقة في كل الأنشطة المشبوهة التي تحرمها قوانين أمريكا نفسها، والقوة التي لم تزل تفضل استمرار الطغاة والمستبدين.. القوة التي باسم قيم حقوق الإنسان تحكم العالم وتنتهك آدمية الإنسان وكرامته.

وحتى القضاء الأمريكي، نجم الأجندة الإعلامية الأمريكية في معركة قرار الحظر الأخيرة، قالت عنه هيئة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، إن أحكامه تميز على أساس الأصول العرقية، على نحو تتفاوت فيه العقوبة بشكل هائل، بل إن العامل الاقتصادي والاجتماعي من ضمن العوامل التي تساهم في تنفيذ عقوبة الإعدام أو إلغائها.

كلمة السر في ذلك كله هي القوة، وانقلاب موازين القوة، سيؤدي بالتأكيد إلى إعادة تعريف القيم في العالم من جديد.