قضايا وآراء

الدكتور النفيسي.. ورأيه بعدم صلاحية الإسلاميين للحكم

1300x600
الدكتور عبد الله النفيسي قامة كبيرة ومفكر من الطراز الرفيع، رغم اختلافنا معه في بعض ما يطرحه، لكن يبقى فيما كتبه ويكتبه ويعبّر عنه من آراء وأفكار خير كثير. وقد أثار في حواره الأخير مع قناة الجزيرة في حصة المقابلة مع الأستاذ علي الظفيري، خاصة في جزئها الثاني، الكثير من القضايا. لكن اللافت فيها هو حكمه الجازم بأن الإسلاميين لا يصلحون للحكم بشكل مطلق. أما رأيه في مسار جماعة الإخوان المسلمين وبعض اجتهاداتها؛ فليس جديدا، فقد كتبه بشيء من التفصيل في الكتاب الجماعي الذي أشرف على إصداره سنة 1988 بعنوان: "الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية أوراق في النقد الذاتي"، خاصة ورقته التي شارك بها في الكتاب بعنوان: "الإخوان المسلمون في مصر التجربة والخطأ".

والكتاب في عمومه جيّد ويعتبر وليمة فكرية دسمة، كان الأولى بالحركة الإسلامية أن تستفيد من الكثير من الأفكار النقدية المشفقة والمحبة والحريصة التي وردت فيه، لأن كل المشاركين في تحرير الكتاب هم في الأصل من نفس دائرتها، وإن كان هذا لا ينفي ضرورة استفادتها من كل الدراسات النقدية لمسارها وأفكارها مهما كان مصدرها. لذلك سنقف فقط وقفات حول رأيه في القضية الأولى وهي رأيه الجازم بأن الإسلاميين - كل الإسلاميين - لا يصلحون للحكم بالمطلق، بسبب ما أسماه تربيتهم الحزبية، ولذلك فهو يطالبهم بالابتعاد عنه وعدم المنافسة عليه. وهو في تصوري حكم مسبق يغلب عليه منطق التعميم المخل، وبعيد عن الإنصاف، وفيه الكثير من الظلم وحتى التجني، فكيف بمفكر متخصص في العلوم السياسية درّس في أكبر الجامعات الغربية، بحجم ومستوى وقيمة الدكتور النفيسي، يصدر حكما إطلاقيا جازما عن تجربة لم تكتمل أو الأصح لم تتم أصلا؟ فلو سلمنا جدلا بحدوث الأمر، وهو وصول الإسلاميين إلى الحكم، فإنه لا يتعدى خمس حالات هي: مصر وفلسطين (غزة) وتونس والمغرب وتركيا، وأغلب هذه الحالات لا يمكن أن نقيّم تجربتها بشكل موضوعي إلى حد أن نصدر عليها حكما بفشلها وعدم صلاحيتها من عدمه:

1- ففي مصر وصل الإخوان إلى السلطة وليس إلى الحكم، في ظل دولة عميقة تتحكم في كل شيء، ورافضة لهم من البداية، وعملت المستحيل لعرقلتهم وإفشالهم، قوامها العسكر والشرطة ورجال الأعمال والإعلام والقضاء، وحتى المؤسسات الدينية الرسمية. وفي النهاية انقلب عليهم تحالف كل هذه القوى بدعم إقليمي ودولي، دون أن يتموا سنة واحدة في السلطة. فكيف يجوز من الناحية الموضوعية والمنهجية أن نحكم عليهم وهم لم يكملوا عهدتهم الانتخابية كاملة على الأقل، ككل ديمقراطيات الدنيا؟

2- وفي فلسطين، نجحت حركة حماس في الانتخابات، وترأست الحكومة في البداية في ظل احتلال أولا، وانحصر وجودها من الناحية العملية في قطاع غزة دون الضفة، وفي ظل حصار خانق برا وبحرا وجوا، شارك فيه العالم أجمع القريب والبعيد - وما زال كذلك - لإفشال التجربة ووأدها في مهدها، وعقاب للشعب الفلسطيني - ومن خلاله رسالة إلى كل شعوب المنطقة - حتى لا يفكر في اختيار هؤلاء مرة أخرى، فكيف نستطيع أن نحكم بشكل موضوعي كذلك على تجربة لم تتم بدورها، وظروفها بالشكل الذي ذكرناه؟

3- وفي تونس شكلت حركة النهضة حكومة ائتلافية بعد ثورة، ورغم ذلك قامت عليها الدنيا في الداخل والخارج، في ظل مرحلة انتقالية حرجة وحساسة، ولم تقعد إلا بخروجها منها، وإجبارها على التنازل عنها، وقد تكشف مؤخرا الدور الفرنسي الضاغط لإفشال حكومة النهضة والعمل بكل السبل والوسائل لإزاحتها منها، فكيف يمكن من الناحية الموضوعية أيضا أن نصدر حكما جازما عن تجربة حكم لم تتم بالشكل الذي يخوّل تقييمها وفق آليات منهجية صحيحة ومقبولة؟

4- وفي المغرب شكل حزب العدالة والتنمية حكومة ائتلافية في ظل سلطات مطلقة للملك، ووجود كل خيوط اللعبة في يده، ورغم ذلك استطاعوا أن يتكيفوا بشكل أكثر واقعية مع الهامش الضيق المتاح لهم، ويحققوا الكثير من النجاحات على المستويات الاقتصادية والتنموية باعتراف العدو قبل الصديق، وهو ما دفع الناخب المغربي إلى تجديد الثقة فيهم بنسبة أكبر مما سبق، وهو ما أقلق الكثير من الجهات الداخلية والإقليمية التي عملت المستحيل للحيلولة دون نجاحهم ثانية. ولما فشلت هذه الجهات في ذلك عملت على إحداث الانسداد وإفشالهم في تشكيل الحكومة مجددا لمدة خمسة أشهر كاملة، وانتهى الأمر بإعفاء رئيس الحزب والحكومة من تشكيلها وإن آل الأمر مجددا لرئيس مجلسه الوطني، ورغم كل ذلك، فإن التجربة باعتراف الكثير من المتابعين تحمل الكثير من التميز والنجاح.

5- أما التجربة التركية، فلا نكثر الكلام حولها، فهي من ناحية تتحدث عن نفسها. ومن ناحية أخرى، فإن الدكتور النفيسي نفسه زكّاها وأثنى عليها واستثناها من حكمه سالف الذكر.

غير هذه الحالات الخمس حسب علمي لا توجد تجربة حكم أخرى يمكن أن نحسبها على الإسلاميين في المنطقة يكونون قد وصلوا فيها إلى السلطة ديمقراطيا وعن طريق الصندوق الحر والنزيه والشفاف، وهو ما لا ينطبق مثلا على التجربة السودانية التي جاءت عن طريق انقلاب عسكري وهو الأسلوب في التغيير والوصول إلى السلطة الذي ترفضه المدرسة الحركية الإسلامية أصلا، وهم ضحايا هذا الأسلوب على مدار تاريخهم كله ولا زالوا ضحاياه الأول بامتياز.

فإذا، من الناحية الموضوعية والمنهجية، لا نستطيع أن نصدر حكما جازما وإطلاقيا وتعميميا كالذي أطلقة الدكتور النفيسي عن تجربة ظروفها بالشكل الذي أوضحناه، وفي أغلبها لم تتح لها الفرصة بالشكل والوقت الكافي والطبيعي، حتى نستطيع تقييمها والحكم عليها سلبا أو إيجابا، فما بالك بأن نجزم أنها دليل على عدم صلاحية أصحابها بالمطلق للحكم. فمن العدل والإنصاف والموضوعية أن تترك للإسلاميين الفرصة أن يحكموا أولا، ويتموا عهودهم الانتخابية كاملة كما تركت لكل التيارات التي حكمت أو حكم باسمها في دول المنطقة، ونراقبهم ونتابع تجربتهم. وعندها وعندها فقط نستطيع أن نقيّم تجربتهم في الحكم، ويصبح من حقنا أن نصدر أحكامنا - صائبة كانت أو خاطئة - عليهم وعلى صلاحيتهم للحكم من عدمها. أما وأن هذا الأمر لم يحدث حتى الآن، فإن الجزم بمثل الحكم الذي جزم به الدكتور النفيسي فيه الكثير من الظلم وعدم الموضوعية، رغم إقرارنا بأخطاء الإسلاميين بل بخطاياهم لأنهم بشر من نسيج شعوب المنطقة يعتريهم ما يعتري غيرهم ولم يأتوا من كوكب آخر.