مقالات مختارة

دولة «محمد» المقبلة في فلسطين

عبدالحليم قنديل
1300x600
1300x600

ليست الحقائق كالأوهام، ففي وقت واحد تقريبا، كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يتحدث في ولاية فرجينيا، ويفاخر بما يتصوره معجزة حققها لإسرائيل، بقرار نقل سفارته للقدس، ويدعي أنه أزال القدس من على طاولة المفاوضات، بينما قبلها بساعات، كان مئة ألف فلسطيني يؤدون صلاة عيد الأضحى في المسجد الأقصى في قلب القدس، رغم عشرات الكوابح من التضييق والحصار الإسرائيلي ومنع وصول الفلسطينيين، وعلى نحو بدت معه الحقيقة الفلسطينية أعظم رسوخا من أوهام الأمريكيين والإسرائيليين، فالصلاة بالأقصى وسط هذه الظروف الحربية، ليست فقط طقسا دينيا جليلا، بل هي طقس وطني بامتياز.


الرسالة الرئيسية هنا هي الثبات على الأرض، وتحدي القهر الذي يريد أن يلوي عنق الحقائق، فلن ينفع قرار نقل السفارة الأمريكية، ولا قانون «القومية» اليهودي، ولا الغلبة الصورية لسلاح الاحتلال، ولا التهويد المتصل، ولا إقامة مئات المستوطنات، ولا لقاءات الغرف السرية والعلنية مع «المتصهينين» العرب، وكل ذلك يجري بهمة ونشاط، ويشكل خبز الأخبار اليومية، لكنه لا يلغي أم الحقائق في الصراع المتصل عبر سبعين سنة مضت، وهي نجاح الشعب الفلسطيني في البقاء على الأرض، وفي التناسل فوقها، وفي ولادة شعب جديد بدلا من الشعب المطرود زمن النكبة، وفي الزيادة السكانية المطردة في فلسطين التاريخية المحتلة بكاملها، وفي تخطي الوجود الفلسطيني لحاجز التعادل السكاني مع اليهود المجلوبين، وفي تقدم الفلسطينيين باطراد إلى وضع الأغلبية السكانية على أرض الصراع، وتكوين شعب خلقته المحنة الفريدة خلقا جديدا، وجعلته أكثر الشعوب العربية تعلما وخبرة.


يضاعف قوته التلقائية بزاد متجدد من الإبداع الكفاحي، وفنون المقاومة الشعبية المتنوعة، التي تجعله الرقم الصعب في المعادلة كلها، وأيا ما كان الاهتراء الذي أصاب وضع قيادته، والمصير البائس الذي آل إليه شعارها عن «حل الدولتين»، فبوسعه دائما خلق قيادات جديدة من صفوف الناس العاديين، وكسب الصراع المتصل مع العدو، بإحراز نقاط كسب تتراكم كل يوم، وتعيد صياغة المشهد على أرض فلسطين، وتستمسك بالرباط المقدس بين الفلسطينيين وأرضهم، وتنهك المشروع الاستعماري الاستيطاني الإحلالي الصهيوني، الذي ينفد زاده من يهود يجلبهم إلى الأرض المقدسة، ولا يستطيع سلاحه ولا تكنولوجياه ولا قنابله النووية، أن تخفي حقيقة الهزيمة الوجودية التي ينزلق إليها مشروعه الاستيطاني، فالأرض تعرف بناسها، وأرض فلسطين تستعيد تدريجيا تعريفها الأول، وتهزأ بالتعاريف اليهودية الاستيطانية المقحمة، وتعود إلى مخبرها ومظهرها الأول، بقوة حضور الفلسطينيين، الذين هم الآن أكثر من نصف السكان على الأرض، وفي غضون عقود قليلة مقبلة، تصبح لهم الغلبة السكانية الساحقة، ويصنعون دولة الأغلبية بالكفاح الشعبي الوطني، حتى لو استمرت إسرائيل في احتلال كامل الأرض، فسوف تكون تسميتها بإسرائيل عبثا في عبث، ووهما يراوغ حقيقة عودة فلسطين لاسمها وأهلها.


وحتى المهووس ترامب، كان بوسعه إدراك الحقيقة غريزيا، والتسليم بالخطر الكامن على ربيبته إسرائيل، ففي محادثة جرت بينه وبين ملك الأردن عبد الله الثاني، حاول الأخير إقناعه بخطورة ما يسمى «صفقة القرن» المرفوضة فلسطينيا، ونقل سفارة واشنطن للقدس، وأنها تدفع الأجيال الفلسطينية الجديدة إلى تفضيل حل «الدولة الواحدة» على «حل الدولتين» الذي تتضاءل حظوظه، وكان رد فعل ترامب مذعورا على حد ما نقلته صحيفة إسرائيلية، فقد اعترف للفلسطينيين بالأغلبية في ظل حل الدولة الواحدة، وتوقع أن يصبح «محمد» هو اسم رئيس وزراء إسرائيل في المستقبل المنظور، وهو ما يجهد مخططو وعتاولة المشروع الصهيوني لتجنبه، ولكن دون الاستقرار على حل، أو صيغة حل يقبله الفلسطينيون، وقد استقروا لوقت على صيغة «حل الدولتين»، ومنح الفلسطينيين نوعا من الحكم المنفصل في الضفة وغزة، وكان رابين وبيريز من أنصار فكرة إسرائيل «العظمى» لا «الكبرى»، التي تحلم بالهيمنة على المنطقة من خلال التفوق التكنولوجي، وبناء شرق أوسط جديد تقوده إسرائيل، بشرط التخلص من العبء السكاني الفلسطيني في الضفة وغزة، وحتى في أجزاء من القدس، وضمان أغلبية يهودية لإسرائيل من وراء ما يسمى «الخط الأخضر»، الفاصل بين الأراضي المحتلة في عدوان 1967 والأراضي المحتلة في نكبة 1948، وكان اغتيال إسحق رابين على يد متطرف يميني نهاية فعلية لوصفة «حل الدولتين»، في حين تضخم بالمقابل تيار اليمين التوراتي، الذي يريد «إسرائيل الكبرى»، التي لا تكون بغير ضم نهائي للقدس وأغلب الضفة الغربية إلى إسرائيل، فالضفة هي «يهودا» و«السامرة» في الأساطير التوارتية، وهي مع القدس قلب المشروع الصهيوني، وإذا كان ولا بد من دولة للفلسطينيين، فلتكن في «غزة»، مع توسيعها على حساب الأراضي المصرية في سيناء، وصدرت عشرات التصورات والخطط المروجة لحل افتراضي من هذا النوع، أطلقوا عليه اسم «الحل الإقليمي»، أي حل مشكلة الفلسطينيين على حساب العرب، وليس أخذا أو استعادة مما تحتله إسرائيل، وكانت تلك هي الأفكار الدافعة لتبني إدارة ترامب لما أسمته «صفقة القرن»، التي سقطت سريعا بالضربة القاضية، بفضل صمود الشعب الفلسطيني، وبسالته الكفاحية الملهمة، وصحوته إلى مقاومة شعبية سلمية جبارة، كانت «غزة» التي يريدون فصلها، هي عنوانه الأكثر حيوية، فقد اندمجت «غزة» في مجموع الهم الفلسطيني عبر «مسيرات العودة»، وتحدت كيان الاحتلال الإسرائيلي في نزال ممتد، أيقظ قلب فلسطين في «حيفا» وفي «القدس»، وجعل قضية الشعب الفلسطيني واحدة متصلة، ولوي ذراع إسرائيل، حتى فيما يقال عنه مفاوضات تجري عبر القاهرة، ودون دفع أي ثمن سياسي لإسرائيل، بقدر ما نجحت وتنجح مع مزيج المواجهات والتهدئات، في فك نسبي للحصار عن غزة، واستعادة حيويتها الفائقة كرافعة لقضية الشعب الفلسطيني، خصوصا مع اضطرار أطراف عربية للتنصل من تبعات «صفقة القرن» وتوابعها، وخيبة أمل قطاعات من الرأي العام الإسرائيلي في حكومات اليمين الفاشلة في تحدي غزة، وفي استثمار وساطة مصرية مالت إلى خدمة مصالح وأولويات الفلسطينيين، وعلى نحو ما يعترف به مقال بعنوان «حماس نجحت في تشويشنا»، ترجمته جريدة «القدس العربي» عن «معاريف» الإسرائيلية في 20 أغسطس/آب 2018، وعبر فيه كاتبه مئير عوزيئيل عن تراجع ثقة الإسرائيليين في حكومات اليمين بعد زوال حكومات اليسار بمغامراتها الخائبة في مواجهة غزة، وتراجع جدوى التصويت في انتخابات إسرائيلية يسعى نتنياهو إلى التبكير بها، وهو ما يدفع الكاتب إلى القول الساخر بمرارة وبالنص «يحتمل أنه يتعين على الإسرائيليين أن يبدؤوا التصويت بالانتخابات في مصر، إذ هناك يتقرر الآن مستقبلنا».


ما علينا، فالحرب سجال، والقصف بالقصف، والتهدئة الموقوتة بتهدئة مثلها، ولكن لا هدنة سلاح طويلة ولا يحزنون، فسوف تظل غزة هي مسقط رأس حركات المقاومة الفلسطينية الكبرى، وغزة هي فلسطين مصغرة، بتركيبها السكاني العائد إلى كل جهات فلسطين، ومن هنا استحالة فصلها موضوعيا عن مجمل الهم الفلسطيني، وقد تنجح جهود المصالحة بين «حماس» و«عباس» برعاية القاهرة، أو لا تنجح، المهم أن يبقى كفاح الشعب الفلسطيني موحدا في الميدان، فالفصائل تجيء وتذهب، تزدهر وتضمحل، بينما يظل الشعب الفلسطيني هو العنوان الباقي، ووحدة كفاحه هي مربط الفرس، وهي الكفيلة وحدها بأن يعمل قانون الأغلبية لصالح الحق الفلسطيني، فليس بوسع كيان الاحتلال أن يطرد الفلسطينيين مجددا، ولا أن يكرر حملات «ترانسفير» على نحو ما حدث في نكبة 1948، ولم تفز إسرائيل أبدا في حرب خاضتها منذ ما بعد عدوان 1967، ولا فازت في ثلاث حروب طويلة خاضتها ضد غزة وحدها، وثبات الفلسطينيين على أرضهم، هو مفتاح النصر النهائي، وامتزاج كفاح الفلسطينيين هو المؤشر الأكثر إيجابية في كل ما يجري، ومع الجمع المدروس بين الكفاح المسلح والكفاح السلمي، فلم تعد هناك عوائق أو فواصل بين حركة الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة في 1967، وحركة الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1948.

 

وانتفاضتا الفلسطينيين الأحدث في 1987 و2000، أيقظتا الطابع القومي لحركة الفلسطينيين وراء ما يسمى «الخط الأخضر»، وصارت الحركة السياسية لفلسطينيي 1948 عربية خالصة، ضعفت فيها اتجاهات «الأسرلة»، التي كانت سارية قبل انتفاضة 1987، ثم تجيء تصرفات تكريس الفصل العنصري التي تبديها دولة الاحتلال، وعلى نحو ما فعله قانون القومية اليهودي، تجيء لتخدم وحدة كفاح الشعب الفلسطيني من حيث لا تدري، فهي تحرم الفلسطينيين المعنيين من حق المواطنة الإسرائيلية، ولا تترك لهم من خيار سوى استعادة دواعي «المواطنة» القومية الفلسطينية، وهو ما يعطي ميزة إضافية لوحدة كفاح الشعب الفلسطيني على أرضه التاريخية كلها، ويجعل «حل الدولتين» شبحا من الماضي، ويفتح الباب لمرحلة جديدة عنوانها «دولة واحدة بأغلبية فلسطينية»، أو ـ باستعارة ترامب ـ دولة «محمد» المقبلة في فلسطين بإذن الله. 

 

عن صحيفة القدس العربي

2
التعليقات (2)
عمر الفاروق
الإثنين، 27-08-2018 04:18 م
عبد الحليم قنديل من اكذب الكتاب ومن بعد انكشف علي حقيقته في تاييد اكبر عصابة لنهب مصر في تاريخها عصابة عسكر الخيانة وبيع مصر واذلال شعبها واستحمارة واستحقارة لا يقبل منه اي كلام يبيعه فهو بياع اي كلام منمق ولكن من مميزات كارثة مصر انها كشف كل الخونة وهذا الصعلوك التافه منهم وعيب علي هذه الصحيفة المحترمة ان تكتب رايا لدجال انكشف واصبح بلا اي قيمة داخليا او خارجيا
كوسموس
الإثنين، 27-08-2018 02:16 م
الأستاذ قنديل رك كثيرا على التعداد السكاني بين اليهود والفلسطينيين ، وحتى لو صار الفلسطينيون في الداخل ضعف تعداد اليهود ، فهل ستقوم دولة فلسطين وينتهي حلم اليهود ؟ الأستاذ أهمل جوهر " صفقة القرن " التي اتفق بشأنها ترامب وبولتن ونتنياهو وحتى بوتين ، كيف بالأستاذ مر مرور الكرام عن الاهتمام المصري بالفصائل داخل حدود غزة المقاومة، هل هو لسواد عيون الفلسطينيين والبحث فعلا عن فك الحصار الذي طال أمده بعد هدم الأنفاق ، خصوصا القريبة من رفح ، جوهر الصفقة يتمحور حول الفصل بين الأراضي التي يسيطر عليها الكيان الصهيوني بما فيها الضفة ، وأراضي غزة التي يجب حسبهم ضمها إلى أراضي حددت مساحتها وحدودها على مستوى سيناء التي هيأوها مؤخر تحت عنوان تطهيرها من بؤر الإرهاب ، هذا مااتفق عليه بولتن ونتنياهو والسيسي ، حذار .