مقالات مختارة

زمن كورونا.. عندما تفقد البشرية شهية الاستهلاك

حسام شاكر
1300x600
1300x600

لم يكن العالم هذه المرّة بانتظار غلاف "الإيكونوميست" ليكتشف واقعه الجديد. صدرت المجلة المرموقة في الأسبوع الثالث من مارس/ آذار 2020 بغلاف يُظهِر الكرة الأرضية مع لافتة "مُغلق". إنه تعبير عن واقع جديد تعيشه البلدان والشعوب تباعاً منذ الإعلان عن أنّ "كوفيد 19" صار جائحة عالمية.


دخلت البشرية مرحلة سكون نادرة في تاريخها الحديث. توقفت كثير من المصانع عن العمل فجأة، وخَلت الطرق السريعة من الزحام المعهود، وانقطعت أسراب الطائرات عن التحليق، واستعادت الأجواء صفاءً نادراً واكتسبت المدن هدوء الريف.


لم تأتِ مرحلة السكون هذه استجابة لغضب تلاميذ العالم في سنة 2019 لأجل حماية الكوكب، كما لم تأتِ امتثالاً للمواثيق والنداءات الأممية بوقف العبث الإيكولوجي والحدّ من الانبعاثات الكربونية. فهو زمن فيروس كورونا (الفيروس التاجي)، الذي فرض على البشرية الإقلاع القسري عن نمط حياة أفرط في الاستهلاك الذي كان بعضه ضارّاً، ضارّاً جداً.

 

تخوض مجتمعات الأرض تجربة جديدة الآن سيكون لها تأثير معنوي وفلسفي عميق لدى الأجيال؛ خاصة إن امتدّت مرحلة السكون والتأمّل هذه شهوراً إضافية. فهل كانت طريقة العيش السابقة صائبة ومسؤولة حقاً؟ وهل كانت ثقافة الاستهلاك الجامحة والإغراق في الترويج مُجدية؟.

 

كان العالم بحاجة إلى إصلاحات راديكالية في السلوك الإنتاجي والثقافة الاستهلاكية. هذا ما كان واضحاً قبل "أزمة كورونا" من واقع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والإيكولوجية في عالم واحد. لم تفلح المناشدات ولا حتى التوافقات الدولية على إنجاز شيء جوهري في هذا الشأن.

 

فالأهداف الإنمائية للألفية التي أطلقتها الأمم المتحدة سنة 2000 لم تتحقق وتم الإعلان عن إخفاقها عندما بلغت أمدها في سنة 2015. وأقرّ المجتمع الدولي في سنة 2019 بالتقصير الحاصل في معالجة مسألة المناخ. لكنّ المصالح الاقتصادية أعاقت الإصلاحات وأبْقَت على السلوك الإنتاجي القائم وعلى الثقافة الاستهلاكية المرتبطة به.


واقع الحال أنّ المجتمعات فقدت شهيّتها فجأة بعلامات تجارية وكماليات زائدة وطرائق معيّنة في العيْش والتباهي بالمظاهر الاستهلاكية. كان باعة السلع الفاخرة يقفون وحدهم تقريباً في المتاجر الأنيقة في الأسابيع الأخيرة التي سبقت "إغلاق العالم"، فقد أحجم الجمهور عن طلب علامات تجارية استثمرت الشركات الكبرى أموالاً طائلة في تلميعها وتضخيم قيمتها المعنوية كي تُباع بأسعار طائلة. ثمّ تزاحم البشر على طلب احتياجات أساسية جداً، وتركوا المواد الاستهلاكية الأخرى التي لا جدوى فعلية منها؛ مكدّسة، فمن بوسعه أن ينتفع بها اليوم؟


ينبغي الإقرار بأنّ نمط الحياة الاستهلاكي التقليدي قبل "زمن كورونا" كان عبئاً على الكوكب وعلى البشرية أيضاً. كان مطلوباً من الجمهور أن يشتري أشياء لم تتأكد مصلحة جوهرية له في اقتنائها.

 

كانت ثقافة التباهي بالعلامات التجارية قد بلغت مبلغها قبل أن تبدأ مرحلة الكمّامات والتعقيم الشامل والعزل الصحي وفقدان الشهية في الاستهلاك غير المجدي.


اكتشف الجميع فجأة أنّ الحياة ممكنة بدون كثير من العلامات التجارية التي سيطرت على الأسواق والواجهات الإعلانية والفواصل التلفزيونية والشبكية. مَن كان بوسعه أن يتخيّل عالماً بدون هذه العلامات؟  يستحقّ الذين (كانوا) يكسبون رزقهم من العمل في خدمة هذه العلامات كل تعاطف وتأييد في محنتهم ومستقبلهم الوظيفي، لكن ينبغي الاعتراف بأنّ كثيراً من هذه العلامات كانت عبئاً على جيوب المستهلكين وعلى النظام الأيكولوجي للكوكب أيضاً.


تحوز البشرية الآن فرصة استثنائية غير مسبوقة للتأمّل والتدبّر والتصويب، أي لمراجعة "النظام القديم" الذي كانت عليه قبل "زمن كورونا"، ويبدو أنّ الوقت متاح لهذا. هل كان من الصائب التوسّع الكبير في تصنيع منتجات تستنزف موارد الكوكب وتُلحِق أضراراً بالبيئة، دون أن تكون البشرية في حاجة مؤكدة لها؟


كانت العلامات التجارية في "زمن ما قبل كورونا" تقترح التخلِّي عن منتجات ما زالت صالحة للاستخدام لأجل شراء أخرى جديدة سيتم التخلِّي عنها لاحقا، وكانت لعبة "الأجيال" المتعاقبة من المنتجات أسلوباً مكرّساً لاستدراج المستهلكين نحو مزيد من الشراء. كان تغيير اتجاهات تصميم الملابس والأثاث والأجهزة والسيارات طريقة مثالية لإغراء الجمهور بتبديل المنتجات موسماً بعد موسم.

 

ولّدت الشركات الكبرى شعوراً لدى المستهلكين بحاجات جديدة كي تقوم بإنتاج المزيد مما لا يحتاجونه في الواقع. انتهت هذه الحلقة المُفرَغة بإنفاق مزيد من الأموال على ما لا جدوى منه؛ بينما تعاظم الإضرار بالبيئة على مرأى من الجميع. وحتى عندما واكب العالم تلاميذ المدارس الذين قرعوا نواقيس الغضب من استنزاف الكوكب والإضرار بالنظام الإيكولوجي؛ فإنّ التقاليد الاستهلاكية المرتبطة بأنماط الإنتاج الرأسمالية بقيت على حالها تقريباً.


الآن، والآن تحديداً، تمتلك المجتمعات فرصة إصلاح نادرة لثقافة الاستهلاك وتحرّر من سطوة العلامات التجارية ومراجعة أنماط حياة تفتقر إلى المسؤولية نحو الكوكب وموارده ونظامه الإيكولوجي والأجيال القادمة. إنها فرصة مناسبة لفلسفة جديدة في الحياة، نحو إصلاح جوهري في أنماط الإنتاج والاستهلاك وبعض طرائق العيش؛ بموجب أولويات جديدة تُراعي الجدوى والمنفعة والالتزام بمعايير إصلاحية وضوابط مسؤولة.


توجد بالطبع طريقة أخرى، تروق للشركات الكبرى ولبعض صانعي السياسة الذين لا يكترثون بمستقبل البشرية. إنها انتظار نهاية مرحلة البيات الاستهلاكي الشتوي هذه ثم العودة بعدها إلى نفْث العوادم الضارة بكثافة في الأجواء وإلى زحام السيارات على الطرق السريعة وإلى شراء سلع مكدّسة لا مصلحة حقيقة في اقتنائها، وإلى استنزاف ما تبقّى من موارد الكوكب والأجيال المقبلة.

 


ترجمة خاصة إلى العربية عن "ميدل إيست آي"

2
التعليقات (2)
محمود مكي
الأربعاء، 08-04-2020 06:30 م
مقالة أكثر من رائعة من المتألق دائما الأستاذ حسام شاكر، ففي المقالة وصف دقيق لما حدث ولشعور الكثير ممن مرّت عليهم الأزمة ورأو مميزاتها، فتحياتي للكاتب العبقري
رائد عبيدو
الثلاثاء، 07-04-2020 07:29 م
وقعت فتنة في الأرض وفساد كبير، وبدت للأنظمة والشعوب سوءاتها، فهل هي مستعدة للاعتراف والتوبة وركوب سفينة النجاة، أم ستأبى وتأوي إلى ما لديها من مال وعتاد وعلاقات وقدرات على التعتيم والكذب والتزوير والرشوة واتهام الآخرين، حتى يعصمها ذلك من الكارثة؟ تبالغ أنظمة العالم في إظهار جهودها التي تبذلها لمكافحة المرض، رغم أنها لم تقدم لغدها في وقت الرخاء، بل خدرت الأعصاب، وراكمت الأوساخ وأخفتها، وأهملت الوقاية والعلاج، فهل ستنفعها محاولاتها المتأخرة الآن وقد عصت قبل، وقدمت مصالحها على المبادئ والقيم والأخلاق، وكانت من المفسدين في الإدارة والمال والقانون؟ وهل يحق لها أن تتذمر من استهتار الناس اليوم بعد أن خربتهم تخريبا ممنهجا بوسائل الإلهاء وصفوف التجهيل وخطب التدجين، ونجحت قوانينها المتعنتة الجائرة في تحويلهم إلى متحايلين على كل القوانين؟ انتهكت الأنظمة والشعوب قوانين الحياة في هذه الدنيا حتى نشأ الوباء، وعم البلاء، واجتاح البلاد، وأصاب العباد. فهل سيعون خطر إنتاج خبائث الأطعمة والأشربة واستيرادها وبيعها، وخطر الإسراف في شراء المنتجات حتى الوقوع في الرياء والربا والميسر، على الفرد والمجتمع، وحاضرا ومستقبلا؟ وهل سيقاطعون سفاكي الدماء، خاصة الإرهابيين الصهاينة والنظام الأمريكي الذي يرعاهم؟ وهل سيكف الناس عن المفاضلة بين أنظمة وأحزاب متشابهة متنافرة تتنافس لاستخدامهم لتحقيق مصالحها، لا لحمايتهم وخدمتهم وتحسين مستقبلهم؟