مقالات مختارة

كورونا ذلك الوباء الكاشف كيف تعامل النظام المصري مع الوباء

يحيى مصطفى كامل
1300x600
1300x600

بصفةٍ عامة يمكننا القول بأن قدرا معتبرا من الفزع، ومن ثم التخبط، وسما ردات الفعل على وباء كورونا، سواء من قبل الحكومات أو الشعوب على مستوى العالم، بدون أن نوصف بالمبالغة، كما يمكننا أيضا تقرير أن الأزمات، كل الأزمات، والجوائح كاشفةٌ بطبيعتها. ليس منا إلا ويحمل جملة من الأفكار والقيم الحاكمة، والهادية للسلوك والتصورات والانطباعات عن الواقع، وفي كثيرٍ من الأحيان بدون أن يعرف من أين تخلقت وتسربت إليه، حتى تشربها، وربما لا يدرك أنه يحملها من الأساس.


الكلام نفسه ينطبق على المجتمع، علاقةً بين الأنظمة والشعوب، وبين الناس، فما من نظام حكمٍ إلا ويستقر ويسود بغرس مجموعةٍ من الأفكار والتصورات، أو استغلال ما كان موجودا منها ومتوارثا. ثم تأتي الأزمات والكوارث، ما كان طبيعيا منها وما لم يكن، لتختبر كل هذه الدعاوى والمعطيات والمسلمات، عن القدرات والكفاءة والاستعداد.


ربما من الإنصاف أيضا أن نقول، إنه وإن تشاركت كل الأنظمة في كل البلدان إبداء الجزع، إلا أن ردات الفعل جاءت كالمتوقع من سيرة هذه الأنظمة وطبيعاتها، فالصين كنظامٍ شمولي في نهاية المطاف يتمتع بقدرٍ عالٍ من الانضباط والكفاءة، لجأت لإخفاء المرض في البداية، ثم إذ تبينت طبيعته الجائحية، استغلت قدراتها التنظيمية الفائقة وسطوتها الشاملة، وقبضتها الفولاذية في فرض حصارٍ على المدينة – المنبع، وتتبع المصابين للسيطرة على المرض وانتشاره، ونجحت إلى حدٍ بعيد، أو هكذا نظن وصُور لنا حتى الآن. كما تعاملت ألمانيا بالصرامة والمنهجية المتوقعة منها، وما يتسق مع قدراتها وانضباطها العلمي، وكذلك حذت فرنسا حذوها. في بريطانيا وأمريكا، البلدين اللذين يحكمهما تنويعا اليمين الشعبوي، بلدي التجربة النيوليبرالية الأسبق والأهم في الغرب، بقيادة ثاتشر وريغان، فلم يستطع جونسون ولا ترامب إخفاء تسلط هاجس تباطؤ الاقتصاد عليهما، وماطلا في فرض الإغلاق التام، ما أدى إلى أعلى أعداد وفيات في الغرب حتى الآن.


والشاهد أن مصر لم تشذ عن هذا، فقد تعامل النظام وإعلامه، كما نتوقع منهما بالضبط. في البداية هوّن وسفّه إعلاميون عديدون من شأن الفيروس (مع يقيننا بالطبع أنهم لا يعرفون الكثير، أو أي شيء عنه علميا)، ثم اتساقا مع تصورٍ أو قناعةٍ شعبيةٍ بالمنعة الخاصة والتفوق والمسار المغاير للبشرية، التي رسختها قرونٌ من قران القهر بالعجز وقلة الحيلة، كنوعٍ من التعويض، مضى الإعلاميون أنفسهم يمجدون مناعتنا التي تهضم الزلط ويستضيفون «خبراء» (تلك الكلمة التي صارت سيئة السمعة في بلداننا) تغذية وأطباء يروجون لشتى الأكلات، خاصة المشتقة من الملوخية (أي نعم كما قرأت تماما: الملوخية) كمنشط للمناعة، قادرة على مقاومة ودحر فيروس كورونا.


في مسارٍ موازٍ رأينا وزيرة الصحة الهمامة تجول العالم، فتارةً تذهب للصين، وأخرى إلى إيطاليا، بدون أن يخرج علينا أحد بتفسيرٍ مقنع، وإن كنا نستطيع الاستنتاج بأنها كانت، ربما تستقي المعلومات والنصح من البلدين المصابين بصورةٍ أفدح؛ من باب الإنصاف أيضا أن محاولات أو مبادرات متباينة الجدية للعزل، وتوفير الأماكن قد اتخذت لفترةٍ ولأسبابٍ غير مفهومةٍ علميا حتى الآن، بدا أن الوباء لم ينتشر في مصر، ما أثار تكهنات بين العلماء، حتى تبين أنها لم تكن إلا مسألة وقت لا أكثر، فالموج العاتي سيصل ويطال ويغمر الجميع في النهاية. للأسف، لم تنجح الملوخية ولا سائر العلاجات الطبيعية، ولا الوصفات الشعبية في السيطرة على انتشار الوباء في مصر، وها هو الآن يحصد الناس حصدا. غير أن النظام في هذه المرحلة، وإذ أحيط به، وكما هو متوقع تماما، لجأ إلى حيله التقليدية من الكذب والتزوير والتلفيق، وفي نهاية المطاف، إلقاء اللائمة على الناس الذين صاروا يتخبطون حائرين في كيفية الوقاية، يسألون هذا وذاك من المعارف والأقارب من الأطباء، وقد ضاقت بمرضاهم المشافي. كثيرٌ منا لاحظ وعبّر عن كون صفحات التواصل الاجتماعي، صارت أشبه بصفحات الوفيات في الجرائد، وليس منا إلا وله راحلٌ، قريبا كان أم عزيزا، بيد الوباء اللعين، ومشافي العزل امتلأت حتى لم تعد تتسع لوافد، والضحايا الشهداء من الأطباء يسقطون يوميا، إلا أن الحكومة لم تزل تتشبث بزعمها بأن عدد الإصابات قليل، وهم بذا يعتمدون على الأرجح على اللعب بحيلة أو خدعة قلة عدد من يُجرى لهم الفحص.


في هذا السياق، يحضرني التعليق الأهم والمفتاح في رأيي لفهم كثيرٍ مما يتعلق بهذه الظاهرة، وهو حين صرّح السيسي مستاء عن المشككين في أعداد المصابين: «مستكترين إن ربنا يحافظ علينا، ومستكترين إن ربنا ميحميش مصر». في يقيني ليس فقط كورونا هو ما يكشف طبيعة النظام، وإنما هذا التعليق وما يكشف عنه من طبيعة الذهنية الحاكمة، لا الشعب ولا النظام وإنما رأسه. هذا التصريح ومجمل التعامل مع الوباء مثالٌ دامغٌ على حقيقة الحال والواقع.


ثمة فجوة عميقة بين الواقع والقدرات والانطباع عن الذات، فجوة قرر السيسي أن يتملق مشاعر الجمهور الوطنية الجريحة، فملأها بالأكاذيب وبأوهام القدرة، ولست أبالغ إذ أؤكد أن ذلك التملق كان رافعته الرئيسية، لكسب الناس عقب الانقلاب، والآن، بتصريحه هذا لم يؤكد سوى كل تلك المعاني المترسخة في بنية الأوهام عن العلاقة الخاصة بالله، ومن ثم حمايته والمعجزة التي ستحمي البلد، أليست هي نفسها القوة العليا التي ساقت إليهم «المخلص» متجسدا فيه؟ بل تمادت الأضحوكة حتى صاروا يخرجون علينا بأخبار مساعداتٍ في مستلزمات الوقاية كالكمامات الطبية ترسلها مصر إلى إيطاليا، في حين أن كل تلك الدول الأوروبية الأكثر ثراء وتطورا، تعاني من نقصها ومن ثم تستبقيها لطواقمها الطبية، وها هم الآن الأطباء في مصر يعانون ويشكون من نقص الإمدادات اللازمة ويتساقطون كالذباب. في حين صارح رؤساء الدول حول العالم الجمهور بفداحة الوباء وبقرب خسارة أحبائهم وذويهم، أرسل السيسي رسالة خاطئة؛ إذ قرر أن مصر محروسةٌ حاميها الله، ثم أطلق وزيرة الصحة هنا وهناك وبعض وحدات الجيش لرش الطرق والجسور بالمبيدات، في خطوةٍ حرت في فهم جدواها، لكن الغرض من كل ذلك واضحٌ وبسيطٌ ومتسقٌ مع مجمل سلوكه، مذ وصل إلى السلطة؛ أنْ يبدو دائما أنه يفعل شيئا، أن هناك حركة. هذا هو المهم. أن تبدو قادرا فاعلا، ولا يهم النتيجة، فمفهوم العمل المفيد النافع والجدوى غير ملحٍ بالضرورة، ومن منطلق أن الحركة بركة، وأن الناس سرعان ما ستنسى وتلهيها مستجدات الحياة، يحرص على الظهور و«المشاريع» من تفريعةٍ جديدة إلى طرقٍ وكَبَارٍ بدون دراسة أو اعتبار للفائدة المنشودة.


لا يعيب مصر أن تكون أوضاعها صعبة؛ لا يعيبها أن تضعف إمكانياتها، ويكثر ضحايا الوباء فيها. لقد جُرفت مصر طيلة عقود، لكن حل المشكلة لا يكمن في خداع الذات والناس، وإنما بالشفافية والمشاركة، بمواجهة الواقع مهما بلغت قسوته، والعمل الحقيقي الجاد لا الصوري على تغييره في إطار الممكن والمتاح.

 

(القدس العربي اللندنية)
0
التعليقات (0)

خبر عاجل