مقالات مختارة

الدبلوماسية الخشنة في أزمة السد الإثيوبي

عبد الله السناوي
1300x600
1300x600

بدت الرواية الإثيوبية المتناقضة كأنها بندول ساعة قديمة، يذهب ويجيء بين الإثبات والنفي من لحظة لأخرى.
ملأت خزان «سد النهضة».. أم لم تملأه؟
في يوم واحد تبنَّت إجابتين متناقضتين؛ أولاهما أكدت، وثانيتهما نفت.
كان الإعلان عن بدء ملء خزان السد منسوبا إلى وزير الري عبر وسائل إعلام رسمية، مصدقا بقدر اتساقه مع الاستراتيجية التفاوضية الإثيوبية في استهلاك الوقت والمفاوضات للوصول إلى هذه النقطة بالذات، بوضع دولتي المصب مصر والسودان أمام الأمر الواقع دون اتفاق ملزم، عادل ومنصف.
وكان النفي الرسمي، عبر الوزير نفسه ووسائل الإعلام الإثيوبية، التي بثت خبر بدء ملء السد، مطعونا عليه في صدقيته.
بفوائض أزمات الثقة فيما يصدر من تصريحات وتعهدات إثيوبية، سرعان ما يجري سحبها من فوق موائد التفاوض والعودة إلى المربعات الأولى مرة بعد أخرى، داعيا إلى التساؤل عن حقائق الموقف وأسرار الارتباك.
في أحوال طبيعية، يفترض أن يكون النفي الإثيوبي لملء الخزان داعيا إلى تأكيد الثقة في إمكانية التوصل إلى اتفاق بين الدول الثلاث ينهي الأزمة، غير أن الأسلوب التفاوضي الذي تتبعه لا يدع مجالا لأي رهان على حسن النية مجددا.
بدت الرواية الأولى، التي أكدت ما التقطته الأقمار الاصطناعية من صور عن بدء ملء الخزان، أقرب إلى خطاب داخلي، فـ«بناء السد وملؤه يسيران جنبا إلى جنب»، و«اللحظة التي انتظرها الإثيوبيون طويلا حانت أخيرا».
فور الإعلان الإثيوبي، أكدت وزارة الري السودانية أن هناك تراجعا في مستويات نهر النيل بما يعادل (90) مليون متر مكعب.
كان ذلك إقرارا من إحدي دولتي المصب بقدر الضرر الأولي الذي أصابها.
وبدت الرواية الثانية، التي قالت إن تحريفا قد حدث لتصريحات وزير الري، وإن «ما حدث هو أن المياه تجمعت في بحيرة السد بشكل طبيعي، خلال موسم الأمطار الحالي، دون أن تغلق بواباته أو تحتجز المياه داخله»، أقرب إلى محاولة درء المخاطر لا إعلان الحقائق.
في الحركة بين الإثبات والنفي، تبدت ثغرات عديدة في الموقف التفاوضي الإثيوبي، فهو لا يملك وحده ــ كما يدعي ويظن ــ أوراق الأزمة كلها يتصرف بها كما يشاء دون رادع.
هناك حدود يصعب تخطيها ومخاطر يستحيل تجاوزها.
أول المخاطر، انهيار صدقية المفاوض الإثيوبي في قارته الأفريقية وداخل محيطه الطبيعي.
بصورة أو أخرى، نجحت إثيوبيا في اكتساب تعاطف كبير داخل القارة دعما وتأييدا لمشروع بناء السد، باعتباره تطلعا لتنمية بلد فقير يسعى للنهوض.
وبصورة أو أخرى، لم تحظ مصر بذات قدر درجة التعاطف، رغم ما يتهددها من أخطار وجودية على حياة شعبها.
لم نعرض القضية المصرية، كما يجب على القارة، ولم يكن الأداء الإعلامي على قدر خطورة القضية وعدالتها.
بترجمة سياسية، مثَّل الإعلان عن بدء ملء خزان السد إحراجا بالغا لجنوب أفريقيا، قبل التئام قمة أفريقية مصغرة تضم قادة الدول الثلاث؛ برعايتها باعتبارها رئيسة الاتحاد الأفريقي في دورته الحالية، للنظر في الخطوات المقبلة الممكنة حتى لا يعلن الفشل النهائي للمفاوضات.
موضع الإحراج أن جنوب أفريقيا قد تبدو متواطئة مع إثيوبيا في استهلاك الوقت حتى يبدأ ملء خزان السد، وأن دعوتها للقمة المصغرة كانت إيعازا من أديس أبابا لعرقلة أي احتمال لاستصدار قرار من مجلس الأمن بشأن الأزمة المتفاقمة.
بتوصيف مندوب جنوب أفريقيا في اجتماع مجلس الأمن، فإنه ليس المكان الصحيح لحل أزمة «سد النهضة»، وأن الفضاء الأفريقي هو الأنسب لمثل هذه الأزمات.
إذا ما كان الخزان قد بدأ ملؤه فعلا، فإن شبهات التواطؤ يصعب استبعادها والاستخفاف بجنوب أفريقيا لا يمكن نفيه.
ذلك يؤثر بالضرورة على قدرة إثيوبيا على المناورة ويضعها في موضع المساءلة الأفريقية.
وثاني المخاطر، أن الإقدام على مثل هذه الخطوة الأحادية الخطيرة، التي تناقض ما التزمت به إثيوبيا في القمة المصغرة الأول قبل أن تحاول التنصل منه، يثبت صحة التوصيف الدبلوماسي المصري للأزمة بأنها تمثل تهديدا للأمن والسلم الدوليين.
وثالث المخاطر، إضفاء نوع من الشرعية على أي عمل أحادي مضاد بذات القدر والقوة، بما في ذلك العمل العسكري إذا ما أغلقت كل الأبواب والنوافذ والفرص لتسوية عادلة، تكفل لإثيوبيا حقها المشروع في الكهرباء والتنمية، وتضمن لمصر حقها في المياه والحياة.
عند حد الحياة والموت لا يمكن استبعاد أي سيناريو.
لا يمكن أن يتقبل المصريون تبوير ملايين الأفدنة، وهدم أية قدرة على توفير احتياجاتهم الغذائية دون رد يكافئ العدوان على حقهم في الحياة.
أمام الارتباك الإثيوبي الظاهر، تحتاج مصر أن تدير أزمتها بأكبر قدر ممكن من التماسك الوطني، وخفض أية احتقانات سياسية واجتماعية والتزام دبلوماسية خشنة تقنع الأصدقاء ــ قبل الأعداء ــ بأنها معركة وجودية لا تقبل أنصاف المواقف.
الأرجح الآن انتظار ما قد تسفر عنه القمة الأفريقية المصغرة، إذا ما راوغت إثيوبيا قرب خط النهاية، فإنها سوف تجد نفسها في زاوية يصعب الخروج منها.
الخطوة التالية المرجحة، التوجه مجددا إلى مجلس الأمن لمحاولة استصدار قرار أممي ملزم، يضع حدّا للمراوغات الإثيوبية.
إذا لم يمكن التوصل بالوسائل الدبلوماسية والضغوط الأفريقية والدولية الممكنة إلى اتفاق ملزم، فإن حروب المياه سوف تشتعل بالنيران على ضفاف نهر النيل.
هناك فارق جوهري ودقيق بين «الأزمة الحادة» و«الأزمة المزمنة».
الأولى، يمكن تجاوزها بعد احتمال قدر من الآلام قبل العودة إلى أوضاع طبيعية، أو شبه طبيعية.
والثانية، تستعصي على التجاوز، وأقصى ما يمكن فعله التعايش معها ومحاولة تخفيف آلامها ومعاناتها دون آمال في أية أوضاع طبيعية، أو شبه طبيعية.
إذا ما جاز استعارة ذلك الفارق من عالم الطب والصحة إلى عالم السياسة والأزمات، فإن ما نحتاجه بالضبط تشخيص أخير لطبيعة الأزمة، «حادة» أم «مزمنة»؟
لكل تشخيص استحقاقاته، كما له تداعياته ونتائجه.
رغم المصاعب والتعقيدات والمراوغات الماثلة، فإنه لا يمكن القفز إلى الاستخلاصات الأخيرة، قبل استنزاف كل الفرص والخيارات المتاحة، التي توفرها الدبلوماسية الخشنة.

(الشروق المصرية)

2
التعليقات (2)
الصعيدي المصري
الإثنين، 20-07-2020 08:52 م
مالذي يمكن لقراء عربي 21 ان يستفيدوه من نشر مقالات تنظرية يدعي كتابها الحكمة وهم بالاساس مجموعة من المتنوخبين الداعمين للديكتاتوريات والاستبداد والقتل والسحل والاعتقالات ..
علوان
الإثنين، 20-07-2020 04:58 م
الحيوان ده كان من رؤوس الداعمين للانقلاب ضد مرسي، و بعدين جاي دلوقتي ابن الوسخه بينظر علينا و يشرحلنا