قضايا وآراء

سباق بناء الأحلاف الدولية: النسخة الأخيرة لـ"ديالكتيك المرحلة" وأين نحن؟

خلدون محمد
1300x600
1300x600
 تعتبر المرحلة الممتدة منذ ما بعد سقوط جدار برلين وما تبعه من سقوط للشيوعية ومنظوماتها الفكرية السياسية ولغاية العام الحالي (أي ما بين 1989 - 2020) مرحلة نموذجية لإسقاط "المنطق الهيجلي" عليها من حيث "جدلية النقائض". فمع ذلك الانهيار ولدت متواليات الاهتزاز، فولدت "العولمة" مندفعة بمصطلحاتها وأدواتها ومنطلقاتها الفكرية والسياسية والتكنولوجية والاقتصادية والفنية... الخ. وفي تجلياتها الأولى في التسعينيات اصطبغت تلك العولمة بصبغة "الأمركة"، لكنها حملت في أحشائها نقيضها، فانبعثت نزعة "هويّاتية" منذ البدء، فكانت حروب التسعينات التي غلبت عليها صفة الحروب الأهلية، كما ميّز الصراع على الإسلام غالبها، كالحروب البلقانية (البوسنة وكوسوفو) والحرب في الشيشان وأفغانستان ثم الحرب على العراق (1991)، والتي فتحت الطريق للاستسلام الكبير في مؤتمر مدريد الذي قاد إلى مفاوضات واشنطن ثم أوسلو، فكانت هناك انبعاثات، ليس فقط لأشكال جديدة من المقاومة الفلسطينية، التي أخذت تجلياتها الأوسع في "انتفاضة الأقصى"، ومن هنا دلفت إلى حروب غزة الثلاث.

بل جاء الانفجار الأكبر في أحداث 11/أيلول (سبتمبر) 2001 التي فجّرت المسألة "الهوياتية" إلى نهاياتها القصوى. وبرز هنا نوع من النضالية الإسلامية الذي لا يزال يثير جدلا متعدد الجوانب. وهو ما استدعى موجة جديدة من هجوم الغرب على العالم الإسلامي، تميزت في البداية بهوية "صليبية" (الدول البروتستانتية). ومع احتشام دول أوروبا المركزية من اللحاق بتلك الحملة التي قادها بوش الابن، لكن سنجد تلك الدول تنخرط لاحقا في الصراع الهوياتي لتعلن حرب "الإسلاموفوبيا"، كما سنلاحظ انبعاث أحزاب اليمين المتطرف فيها من جديد.

 وفي هذا "الديالكتيك" أفضت "الهويّاتية" التي أعقبت "العولمة" إلى نقيضها "الانعزالية" التي جسدتها بالأخص سياسات إدارة رئيس أمريكا العنصري ترامب، والذي رفع الشعار الانعزالي "أمريكا أولا" ثم اتّبع سياسة "الحماية الجمركية" وسياسات "النبذ" و"العقوبات" و"بناء السدود والأسوار" والانسحاب من المعاهدات الدولية، ومن قوانين التمييز العنصري. وهذه الانعزالية نجدها تقود إلى مرحلة من "الشعبوية" الغوغائية الرعاعية والصبيانية.

 أما في داخل العالم العربي، فقد أنتجت مرحلة الاستبداد طويل الأمد نقيضها "ثورات وانتفاضات الربيع العربي". وهذه بوجهها الإسلامي، لم تلبث أن استدعت نقيضها المباشر "الثورات المضادة" بوجهها "العلماني" ودخلنا مرحلة تفجير الدمامل الفاسدة في الجسد العربي المهترئ، والتي لا زالت حلقاتها متتالية في مرحلة بحث الشعوب عن ذاتها ودليلها.

 وفي تبسيط لهذا "الديالكتيك"، سنجد أن كل رئيس أمريكي في هذه المرحلة، إنما جاء كنقيض صارخ لسابقه، فقد جاء الرئيس بوش الابن المحافظ والمتدين من طبقة منتجي النفط في الجنوب الأمريكي مع ترسانته من (المحافظين الجدد) كنقيض لكلينتون الليبرالي (صاحب فضيحة مونيكا لوينسكي) ونائبه آل جور (الذي جاء من خلفيته دعاة الحفاظ على البيئة ودولة الرفاه) كما جاء الرئيس أوباما (المثقف المنحدر من أب مسلم، والأول في تاريخ رئاسة الولايات المتحدة الذي ينتمي للأقلية السوداء كنقيض لبوش وسياسته وقوانينه العصبوية والعدوانية والمقوّضة للحريات، حيث عمل على فض الاشتباك مع العالم الإسلامي، وحتى مع أشد خصوم أمريكا التاريخيين ككوبا وإيران وفنزويلا، وأرخى يده عن مؤازرة الرؤساء المستبدين الذين أسقطهم الربيع العربي. ثم يجيء ترامب (من الواسب الأشد بياضا وشقرة) كنقيض موضعي لسلفه أوباما في حالة من العنصرية الساخرة غير المسبوقة في كل شيء.

 كما تميّزت العلاقات الدولية في هذه الحقبة (1989-2020) بالسيولة و"الاضطراب"، وما أطلق عليه بعض الاستراتيجيين ظاهرة "الفوضى في العلاقات الدولية". فسابقا كان سلوك الدول كبيرها أو صغيرها منتظما في سياقات معروفة الحدود، فالاتحاد السوفياتي أو الولايات المتحدة، كان كل منها يقود معسكرا دوليا، لكل منه ملامحه وهياكله المعروفة، وحتى الدول الصغيرة أو العالمثالثية كانت تنتظم في مجموعات كدول عدم الانحياز أو منظمات إقليمية أخرى، وكثير من هذه الدول كانت لها ارتباطات مع هذا المعسكر الدولي أو ذاك.

 أما في هذه الحقبة، فقد بلغت الفوضى في العلاقات الدولية حدودا غير عقلانية، فمثلا في دولة كروسيا الاتحادية (وريثة الاتحاد السوفياتي) برزت "هوياتية" جديدة ممزوجة بنوع من الشعبوية، ثم سنجد صيغ الفوضى هنا بأوضح الصور؛ فهي في علاقات حميمة مع آخرين متعادين. مثلا لروسيا علاقات حميمة جدا مع الكيان الصهيوني، كما لها علاقات (شبه تحالفية) مع عدوة "إسرائيل" الأولى: إيران!! ثم نجدها متضاربة المصالح مع جارتها تركيا في الحروب السورية ثم ما تلبث أن تعود لتنسج علاقات (شبه تحالفية) مع تركيا، لأجل تلك المصالح أيضا!!

 ولكن سنلاحظ أنه مع هذا العام العجيب (2020) عام المفاجآت، والاختلالات والاحتقانات الكبرى، سيتم وضع حد لهذه الفوضى في العلاقات الدولية، ولعلنا نلاحظ، خاصة في الشهور الأخيرة تسابق الدول كبيرها وصغيرها إلى الانتظام في "أحلاف"، والكل يتأهب لأخذ دوره واصطفافه، ففي منطقتنا نجد أن الكيان الصهيوني مثلا، يسارع في بناء حلفه، فقد صرح بومبيو، وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية بأن العلاقات الجديدة الناشئة بين الإمارات والبحرين مع الكيان الصهيوني إنما هي "حلف" من أجل مواجهة إيران، ورأينا الجهد الحثيث لضمّ مزيد من الدول لهذا الحلف وآخرها السودان، وهناك كما يقال ما يصل إلى نصف دزينة من الدول التي يبشرون بأن تلتحق بـ"حلف إسرائيل" بالإضافة طبعا لمصر والأردن.

 وفي المقابل نجد أن إيران أيضا منهمكة في بناء حلفها، ليس فقط مع الشركاء الأصغر حجما، بل حتى مع الصين وروسيا. كما سنجد تركيا هي الأخرى آخذة في بناء حلفها، ليس فقط مع المعارضات الإسلامية "الثورية" التي أفرزها الربيع العربي في سوريا وليبيا ومصر، ولكن مع دول لها وزنها كالباكستان وأندونيسيا وماليزيا وقطر، وربما الجزائر وتونس، بالإضافة إلى الدول الناطقة بالتركية.

 وعند التدقيق في مواقف الدول، وحتى الحركات والكيانات السياسية هذه الأيام، سنجد أن الجميع يغادر موقعه السابق ويبحث له عن حلف ينتظم فيه. ولعل الحميّة والاندفاعات التي تميز سلوك دول كبرى كأمريكا وفرنسا والصين وروسيا وربما الهند والبرازيل في هذا الاتجاه لافتة للنظر، فالجميع داخل في ماراثون بناء الأحلاف. لدارسي التاريخ، تشبه هذه اللحظة لحظة "التمحلفات" في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عشية الحرب العالمية الأولى، وأيضا شبيهة بلحظة تحالف ثلاثينات القرن العشرين عشية الحرب العالمية الثانية.

 لكن هذه التحالفات الجديدة، التي يغلب عليها التأهب للدخول في صدام بسبب الاحتقانات المتعاظمة، وغياب دور الأمم المتحدة والقانون الدولي. وفي حالة كهذه، يكون مجرد حادث Accident، ربما شبيه بمقتل ولي عهد النمسا في سراييفو عام 1914، أو الاستيلاء على إقليم أو دولة كما فعلت ألمانيا الهتلرية مع بولندا، كفيلا بتفجير تلك الاحتقانات، وعلى نطاق واسع؛ بسعة الأحلاف المتشكلة.

 وباعتقادنا أن الصدام إن وقع هذه المرة، فلن يستغرق وقتا طويلا كما استغرقته الحربان العالميتان السابقتان؛ بسبب طبيعة تطور منظومات السلاح. وهنا سيضطر الفرقاء للجلوس من أجل إعادة صياغة عملية إدارة العالم. فيما يشبه ما حدث عام 1945 في لقاءات مالطا ويالطا وسان فرانسيسكو ونيويورك التي أسفرت عن ميلاد الأمم المتحدة ومنظماتها المختلفة.

 وبالنسبة للعالم العربي والعالم الإسلامي، صحيح أن أوضاعه تبدو وكأنها بائسة وتدعو إلى الشفقة، لكننا نعتقد أن حالنا اليوم كأمة أفضل مما كنا عليه عام 1945 أو عام 1948، واستطرادا عام 1967. لدينا اليوم في العديد من الدول والمواقع إرادات مستقلة، وقيادات منتجة، ومشاريع للنهوض كما لدينا فلسطينيا وربما عربيا - رغم البؤس في أحد أوجه الواقع- مقاومات تثبت نجاعتها في العديد من المنازلات.

 كان من الملفت أنه دعي على هامش لقاء الدول الإسلامية الخمس التي اجتمعت في كوالالمبور (كانوا نواة لبناء حلف إسلامي) مئات من العلماء في شتى التخصصات للنظر في وضع خطط للنهوض بواقع الأمة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وعلميا وتكنولوجيا وتنمويا واستراتيجيا.. نوصي أن يسعى هؤلاء المتخصصون منذ الآن، وفي حال وقعت المواجهة العالمية المتوقعة، وجلس فرقاء العالم على الطاولة، لأن يدلوا بدلوهم كي يأخذ المسلمون وضعهم في إدارة العالم، وأن يكفوا عن الغياب كما في السابق.

 وملاحظة أخيرة هنا، أن الكيان الصهيوني كان وليد لحظة تحولات عالمية أتاحت له المجال كي يترجم حلم إقامة المشروع الصهيوني إلى دولة على أرض الواقع. فبفضل تحولات الحرب الأولى كان وعد بلفور 1917، وفي الثانية كان قرار التقسيم 1947. واليوم فإن إزالة هذا الكيان الهجين وغير الطبيعي، تتطلب، موضوعيا، مخاضا عالميا يتيح المجال لإلغائه ومحوه، وهذا ليس بدعا من التحولات العاصفة التي شهدها جيلنا في العقود الماضية والتي لا تزال فصولها تتوالى.
0
التعليقات (0)