كتاب عربي 21

إشهار السكاكين بعد سقوط الثور

جعفر عباس
1300x600
1300x600

للفساد في العالم العربي حيثية وشخصية ويمكنك أن تراه بالعين المجردة، وتقول الطرفة إن رئيسين عربيين زارا نظيرهما في دولة ثالثة، فشرع ثلاثتهم في التباهي بما حققوا من ثروات، فقادهم رئيس الدولة المضيفة إلى منطقة في طرف عاصمة بلاده وقال لهم: انظروا إلى هذا الطريق الصحراوي الممتد لمئات الكيلومترات، فقيل له: ولكننا لا نرى سوى بضعة أمتار من الطريق المسفلت، فانفرج فمه بابتسامة وقال: بالضبط فكل الميزانية المرصودة للطريق في جيبي. 

ودارت الأيام واجتمع ثلاثتهم في دولة ثانية، حيث قادهم رئيسها إلى خارج المدينة ووقف بهم أمام ثلاثة أعمدة خرسانية وقال: انظروا شبكة الجسور والأنفاق هذه، ولما قيل له إنهم لا يرون سوى الأعمدة الثلاثة صاح منتشيا: بالضبط ومخصصات الشبكة في جيبي، وعند اجتماع الثالوث في الدولة الثالثة اصطحبهم رئيسها إلى أرض خلاء على امتداد البصر وقال لهم: هذا هو مطارنا الدولي الجديد فقال له الضيفان إنهما لا يريان أثرا لأي عمران فجاء الرد: بالضبط لم أنفق فلسا واحدا حتى لـ "التعمية"، وجميع مخصصات المشروع في جيبي.

قبل أكثر من عشر سنوات حصلت حكومة الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير على ثلاثة قروض تناهز قيمتها الـ 700 مليون دولار لإنشاء مطار دولي جديد، وكل ما تم تشييده بذلك المبلغ لافتات "وصول / مغادرة / عبور"، بكلفة لا تزيد على المائة دولار، ما يعني أن الملايين الـ 700 فص ملح وداب، ويوم الخميس 10 حزيران (يونيو) الجاري اتفقت الحكومة الحالية مع شركة سوما التركية على استئناف العمل في المطار، وبعد سقوط نظام البشير تم أيضا اكتشاف أن النظام كان يعمل بأسلوب الرؤساء الثلاثة آنفي الذكر، فقد تم في عام 2012 تخصيص زهاء 800 مليون دولار لإنشاء محطة كهرباء عملاقة في بلدة الفولة في غرب السودان، واتضح في عام 2019 أن تلك الملايين أيضا وجدت طريقها إلى جيوب خاصة الخاصة.

وجاء في تقرير صدر مؤخرا عن منظمة الاستقامة المالية العالمية إنه وخلال الفترة التي كان فيها السودان مُصَدِرا للنفط تم التلاعب بالسجلات، فبينما تفيد دفاتر المستوردين انهم حصلوا على أكثر من 112 مليون برميل، كانت سجلات الحكومة تفيد بأن صادر نفطها فقط 62 مليون برميل، وخلال السنوات العشر الماضية كان السودان يلي جنوب إفريقيا في ترتيب الدول المنتجة للذهب في إفريقيا،  وحصلت منظمة الاستقامة على وثائق تؤكد أن صادرت السودان من الذهب ما بين 2012 و2018 كانت 405 أطنان بينما لم تعلن حكومة عمر البشير إلا عن 199 طنا.

 

لفساد في العالم العربي كائن فيزيائي يراه الجميع، ولكنهم لا يملكون حق التحدث علنا عنه إلا بعد سقوط هذا النظام أو ذاك، ولهذا صار بإمكاني الحديث عن فساد حكم عمر البشير، وسمعنا بعد ثورتي عام 2011 في مصر وليبيا عن فساد علاء الدين مبارك وعائشة القذافي،

 



والحال من بعضه في محيط السودان، أي المنطقة العربية (الشرق الأوسط وشمال أفريقيا)، حيث ثبت أن واحدا من كل إثنين في لبنان إما راشٍ أو مرتشٍ، بينما بلغت نسبة المرتشين في المغرب 31% مقابل 24 % في السودان، وبعبارة أخرى فإن الفساد في العالم العربي لا يقتصر على الجالسين في كراسي الحكم بل يسري في أوصال أجهزة الحكم، وقد يكون بأن لا يقضي موظف الدولة حاجات الناس إلا نظير مقابل نقدي أو منفعة من لون أو آخر، صعودا إلى ترسية العطاءات لمن يدفع، وهو المستوى الذي يكون سادته وسدنته السياسيون وكبار التنفيذيين من القانونيين والمحاسبين والصيارفة وربما من خلال واجهات (شركات) مهمتها شطف الأموال العامة وغسلها ثم إخفائها.

ما يستوجب الانزعاج والقلق بشأن الفساد في العالم العربي هو أنه متغلغل في مضماري الأمن والعدالة، وحسب تقارير منظمة الشفافية فالقطاعات الأكثر تلقيا للرشوة فيه هي الشرطة، والمحاكم والمرافق العامة (كالماء والكهرباء)، ودواوين إصدار الأوراق الرسمية، وجاءت الشرطة اللبنانية في المقدمة، يليها السودان ثم المغرب وفيما يتعلق بخدمات المرافق العامة، تصدر لبنان قائمة استحالة الحصول على الخدمات دون دفع المعلوم، ثم جاء الأردن وفلسطين تاليين.

واستعراض حال الدول العربية الأكثر فسادا (موريتانيا والسودان ولبنان وسوريا والعراق واليمن والصومال) يشي بأنه كلما كانت هناك سلطة تقمع الحريات العامة، ساد الفساد لتعذر الشكوى والاحتجاج، فحيثما كان الفساد مؤسسيا، أي يُمارس على مستوى أجهزة الدولة بضلوع كبار المسؤولين فيه، يجاريهم الصغار وهم مدركون أنهم معصومون من المحاسبة لأن انكشاف أمرهم يعني انفضاح الكبار، ولهذا تتصدر الدول الأوروبية قائمة الدول الأقل فسادا، لكون جميع هياكل الحكم فيها خاضعة لرقابة برلمانات منتخبة تملك سلطة محاسبة "أكبر رأس".

والشاهد: الفساد في العالم العربي كائن فيزيائي يراه الجميع، ولكنهم لا يملكون حق التحدث علنا عنه إلا بعد سقوط هذا النظام أو ذاك، ولهذا صار بإمكاني الحديث عن فساد حكم عمر البشير، وسمعنا بعد ثورتي عام 2011 في مصر وليبيا عن فساد علاء الدين مبارك وعائشة القذافي، وهكذا تتكاثر السكاكين على الثور فقط بعد وقوعه مشلول الحركة.


التعليقات (1)
كاظم صابر
الأحد، 13-06-2021 05:07 ص
لا يدرك الكثيرون الحجم الهائل لنعمتين : الوالدان المحسنان لتربية ذريتهم و القناعة في العيش . دور الوالدين مهمَ في كشف واقع الفقر لدى الأسرة -إن كان قاهراً- و الرضا بالمقسوم من الرزق مع سعي نحو الستر بطرق نظيفة. قيل عن القناعة أنها "كنز لا يفنى" ، و هي صفة مكتسبة نتيجة التربية السليمة ، و ولأبي ذؤيب الهذلي في ذلك بيت شعر حكيم : (والنفس طامعة إذا طمَعتها ** وإذا تُردُّ إلى قليل تقنع). رسوخ الطمع – المنافي للقناعة - لدى بعض الناس له تداعيات سلبية جسيمة أهمها "قطعت المطامع أعناق الرجال" أو كما قال ابن الجوزي ، رحمه الله ، في صيد الخاطر موضحاً " من رضي بالخل و البقل لم يستعبده أحد ". حين يطمع شخص ، لا يقيم وزناً لحلال أو حرام ، بالمال الوفير فإنه سيجد في هذه الدنيا من هو جاهز لإسقاطه في دائرة العبودية و الإذلال و ستتبخر عنده حتى قيم العرب في الجاهلية التي تمثلت في قولي عنترة بن شداد (وَلَقَد أَبيتُ عَلى الطَوى وَأَظَلُّهُ ** حَتّى أَنالَ بِهِ كَريمَ المَأكَلِ ) و (لا تَسقِني ماءَ الحَياةِ بِذِلَّةٍ ** بَل فَاِسقِني بِالعِزِّ كَأسَ الحَنظَلِ). واقع الحال المزري في أقطار أعرابستان و من على شاكلتها أن هنالك كثيرون ممن يسعون نحو مناصب و ألقاب فارغة يستطيعون من خلالها الوصول إلى خزائن المال ثم تمتد أياديهم للاختلاس أو السرقة و كلما "ارتفع" المنصب ازدادت عمليات النهب خاصة عندما لا يكون حسيب أو رقيب من البشر . هنالك نتيجتان لهذا السلب : أولهما ضمان حجز مقعد في جهنم كما في الحديث النبوي الشريف (كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به) و لن ينفع اللص التصدق أو دعم جمعيات خيرية لأن الله (طيب لا يقبل إلا طيباً) ،و ثانيهما بأنه بمجرد وصول المال المنهوب إلى مليون دولار مثلاً فهذا سيثير انتباه "عصابات المال الدولية" حتى لو قام الناهب "الفصيح !" بتقسيم إيداعاته على عدة مصارف و حين ينتبهون له فستوضع الخطط اللازمة لاستدراج المال الحرام إلى العصابات شاء أم أبى . لهذا فلص المال العام هو حقاً سفيه "أي ضعيف العقل و التفكير و حسن التصرف" و لذلك خوطبت الأمة بأمر الله (و لا تؤتوا السفهاء أموالكم) و موجودة القاعدة الشرعية التي تطلب من العقلاء القادرين"الحجر على السفيه".

خبر عاجل