مقالات مختارة

تونس بين مطرقة التدخل الخارجي وسندان الانهيار الداخلي

عبد الحميد صيام
1300x600
1300x600

لا أعرف من أين أبدأ الحديث عن الأزمة الخانقة التي تعيشها تونس هذه الأيام، مع العلم أنها ليست وليدة شهر أو سنة أو سنتين، بل بدأت بوادرها تظهر بعد انتصار شباب ثورة الياسمين، والإطاحة بحكم الاستبداد والفساد الذي مثله زين العابدين وعائلته لمدة 23 سنة.

 

وللأزمة الحالية عدة وجوه والخطأ أن ننظر إليها، أو نحاول تحليلها من منظور واحد، كإطلاق حكم مطلق بأنها انقلاب، أو أنها تجديد لثورة الياسمين، أو أنها استكمال لجهود إجهاض ثورات الربيع العربي، أو أن الأزمة سببها حزب النهضة فقط، فالأزمة حقيقة توليفة معقدة من كل هذه الأسباب مجتمعة ويمكن أن نضيف عليها الكثير.

وسأحاول كغيري أن أطرح تصورا لما يجري، وأعرف أنني كمن يسير في حقل ألغام قد ينفجر أحدها في أي لحظة. فمن السهل أن نقول إن ما حدث انقلاب أو ثورة جديدة وانتهي الأمر وسيأتي من يصفق لك وآخر يخونك ويتهمك بالعمالة. لكنني سأحاول أن أطرح بعض الملاحظات بقدر كبير من الموضوعية، كشاهد عيان زار تونس خمس زيارات بعد الثورة، ومتابع عن قرب للشأن التونسي.

الأوضاع الموضوعية في تونس عشية الثورة

تونس بلد صغير مساحة وسكانا.. ولأن تونس بلد مسالم لا عداوة له مع أحد فقد خصص جزءا أساسيا من موارده للتعليم والصحة والضمان الاجتماعي والتنمية، خاصة في عهد الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، الذي يذكره التونسيون بخير ويترحمون عليه، بعدما شاهدوا ما حدث بعد رحيله من كبت للحريات وفساد وتكريس لحكم الاستبداد.

تميزت تونس بثلاث مزايا لا تكاد دولة عربية تصل إلى مستواها في هذه الخصال وهي: إبعاد الجيش الصغير نسبيا عن السياسة، منذ بداية الجمهورية الأولى عام 1956، وقوة المجتمع المدني ووعيه وتأثيره، خاصة الاتحاد العام للشغل الذي عجزت فرنسا وبورقيبة وبن على وحكومات ما بعد الثورة عن احتوائه. وقد استحقت منظمات المجتمع التونسي جائزة نوبل للسلام عام 2015 عن جدارة واستحقاق. والميزة الثالثة والمهمة غياب العنف والاغتيالات في الحياة السياسية للشعب التونسي.

ولم يتم تسجيل أي حادثة عنف أو اغتيال حتى قيام الثورة، إلا مرة واحدة عندما اغتيل معارض بورقيبة الكبير، صالح بن يوسف، في فرانكفورت بألمانيا عام 1961، أضف إلى ذلك تجانس الشعب التونسي وغياب العشائرية والقبلية البغيضة، وارتفاع نسبة التعليم واتساع رزمة حقوق المرأة وتمكينها.

 

بورقيبة ترك بلدا فقيرا يعتمد أساسا على الزراعة، وتصدير زيت الزيتون والحمضيات. وكانت السياحة تأخذ حيزا من الاقتصاد، لكنها لم تكن الأساس، لكن بن علي حول البلاد إلى فندق كبير، وكانت جل الاستثمارات الأجنبية في ميدان السياحة فأصبحت البلاد رهن شركات السياحة، التي لا تعمل إلا ضمن الاستقرار والهدوء والحريات العامة. وعندما وقعت أول عملية إرهابية في تونس بتاريخ 11 إبريل 2002 واستهدفت معبد الغريبة اليهودي في جزيرة جربة، التي تبنتها «القاعدة» انهارت السياحة تماما لعدة سنوات.

بعد انطلاق ثورة الياسمين وهروب بن علي من البلاد توقفت السياحة تقريبا عن معظم الدول العربية التي شملتها الانتفاضات. الفرق أن تونس كانت تعتمد أساسا على السياحة، فكيف لها أن تواجه الوضع الجديد الذي شهد انهيارا للعديد من المؤسسات؟ كما شهدت البلاد هروب كبار رجال المال، وتهريب المليارات خارج الوطن.

 

ثم سرعان ما تحول جماعة بن علي الذين كانوا يعملون لصالحه إلى العمل لحساباتهم الخاصة. ومع مرور السنوات بعد الثورة بدأ تردي الأوضاع الاقتصادية يتفاقم، فانتشرت الإضرابات، وارتفعت الأسعار بشكل خيالي، وانخفضت قيمة الدينار ووصلت نسبة البطالة إلى نحو 18%،.

 

وما كان يمر يوم دون أن تكون هناك مظاهرات احتجاجية أو اعتصامات أو إضرابات، وما فاقم تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد الحرب الأهلية في الجارة ليبيا، الشريك الأكبر والأهم لتونس. فقد كان يعمل في ليبيا عشرات الألوف من التوانسة الذين يدرون دخلا ضخما بالعملة الصعبة للبلاد. وقد قدر عدد التوانسة المقيمين والعاملين في ليبيا لغاية 2012 أكثر من 83000 مواطن. كذلك كانت تونس هي الجهة المفضلة لآلاف الليبيين للسياحة والتجارة والاستثمارات، التي توقفت بشكل أو بآخر. ومع كل هذه الصعوبات الاقتصادية ظلت العاصمة تونس تشهد بناء الأبراج الضخمة والمباني الفاخرة والأسواق التجارية.

وتجد المقاهي الحديثة في منطقة البحيرة، تتنافس في الجمال والديكور والخدمات. فمن أين كل هذه الأموال؟ لقد تحولت تونس إلى مركز كبير لتبييض الأموال، وانتشرت الجماعات الناهبة والسارقة تحت حماية من الأقوياء.

تدخلات خارجية – أخطاء وخطايا

من كان يعتقد أن قوى الثورة المضادة ستترك تونس في حالها فهو مخطئ، بل العكس، فكلما تمسك التونسيون بديمقراطيتهم وتجاوزوا العقبات، زادت التدخلات وزاد التصميم على إسقاط التجربة الوحيدة التي استطاعت أن تتجنب مقصلة محور الثورات المضادة، التي كانت وظلت مصممة على إقفال باب التحول الديمقراطي. وقد قادت معسكر الثورات المضادة دولة الإمارات، بدعم من السعودية والكيان الصهيوني ثم مصر لاحقا، لقد تم استغلال الأوضاع الاقتصادية السيئة أبشع استغلال، كما تمت الاستفادة من مناخ الحريات، خاصة حرية التعبير، فانطلقت عشرات القنوات الفضائية التي تحرض الشعب التونسي على حركة النهضة، متهمة إياها بالشرور كافة.

 

لقد مثلت ظاهرة عبير موسي الوجه الأكثر وضوحا في هذا المجال، لقد مولت الإمارات كل الحركات المعادية للديمقراطية، وسرّبت وثائق عديدة في هذا المجال كان أهمها « الاستراتيجية الإماراتية المقترحة تجاه تونس» المنسوبة إلى مركز الإمارات للسياسات، لترتيب انقلاب عن طريق وزير الداخلية المقال، لطفي براهم، بعد أن خذل الرئيس الباجي قايد السبسي الإمارات، التي دعمت حزبه «نداء تونس» لكنه عاد وتحالف مع النهضة. لقد حاولت الإمارات وما زالت إسقاط التجربة التونسية عن طريق المال والإعلام، واستغلال العمليات الإرهابية والفوضى لوأد الثورة التونسية، لتنضم إلى الثورات الموؤدة في ليبيا واليمن ومصر وسوريا والبحرين. وقد تصاعدت تللك الوتيرة بعد فشل مراهنتها على الجنرال خليفة حفتر في ليبيا.

هذا لا يعني أن حركة النهضة لم ترتكب أخطاء قاتلة، حرّضت الشارع التونسي ضدها، خاصة تسترهم على الفساد والفاسدين، وتحالفهم مع جماعة بن علي. لقد تحولت النهضة 180 درجة عندما عادت وتحالفت مع نبيل القروي وحزبه «قلب تونس» الذي خاض الانتخابات الرئاسية الأولى وهو في السجن بتهمة الفساد، ثم أعادت النهضة تأهيله وسمته سجين الرأي. كما أنها تحالفت مع بقايا نظام بن علي ورموزه المعروفين. وفي ظل هيمنة النهضة على الحياة السياسة، خاصة في السنوات الأربع الأولى، انتشر التطرف والعمليات الإرهابية ضد الجيش، واغتيل شكري بلعيد ومحمد البراهمي، واستهدفت المرافق السياحية بالعمليات الإرهابية، مثل المتحف وشواطئ سوسة. ومع أن النهضة لم تتهم مباشرة بهذه الأعمال، إلا أن الشعب التونسي واثق من أن المناخ المتطرف الذي انتشر بعد الثورة في ظل النهضة هو المسؤول.

 

نقطة أخرى سمعتها من كثير من التوانسة وهي أن شخصية راشد الغنوشي ليست شخصية جامعة موحدة بعكس عبد الفتاح مورو، الذي يحظى باحترام الشعب التونسي بشكل عام، حتى الذين يختلفون معه. لقد لعب الغنوشي دورا في إبعاده عن المسرح السياسي، حيث رشحه للرئاسة وجاء ترتيبه الثالث بين المرشحين وحمّله الغنوشي مسؤولية الفشل، ليخلو له منصب رئيس البرلمان، وهو ما حدث فعلا وفاقم الأمور أكثر وأدى إلى شبه شلل في الحياة التشريعية التي يمثلها البرلمان.

قرارات الرئيس يوم 25 يوليو

لقد جاءت قرارات الرئيس قيس سعيد على هذه الخلفية، التي وصلت إليها البلاد خاصة في ظل انهيار الوضع الصحي، بسبب خروج جائحة كورونا عن السيطرة. إذن تجمعت كل هذه العوامل لتساهم في تقبل الشارع التونسي الخطوات الخطيرة التي اتخذها الرئيس، والتي لا شك تعتبر انتهاكا للدستور لا يحتاج المتابع كثيرا من الجهد ليثبت هذا الانتهاك. لكن الشعب التونسي بشكل عام ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب العديدة بما فيها النهضة، ستعطي الرئيس الفرصة التي طلبها وهي شهر كامل للقيام بإصلاحات جذرية، لكن ليس على حساب الديمقراطية، بل لتثبيتها وتخليصها من الشوائب ومافيات الفساد. أما إذا أصر على التمسك بالسلطات جميعا ليتحول الحكم إلى سلطة الفرد المستبد، فليس أمام الشعب التونسي الواعي إلا فرض إعادة الديمقراطية… فالاستبداد لن يؤدي إلا إلى مزيد من التدهور والانهيار والاحتراب الداخلي وتدمير إمكانيات النهوض والازدهار.

نريد للتجربة الرائدة في تونس أن تبقى رائدة لدحض نظرية المؤامرة، التي روج لها النظام العربي بشقيه الفاشي والرجعي، كي يفقد الأجيال العربية الصاعدة ثقتها بنفسها وكي يثبت من جهة أخرى أن الديمقراطية نبتة غريبة لا مكان لها في بلاد العرب التي لا ينفع معها إلا النظام الجمهوملكي المسلح بأجهزة الموت. الشيء المشترك الذي يتفق عليه أبناء تونس جميعا أن حل المشاكل لا يتم إلا بالحوار والحوار فقط وعدم اللجوء إلى أي أسلوب آخر، لأن قدر تونس أن تنجح وقدر ثورتها أن «تعيش رغم الداء والأعداء ـ كالنسر فوق القمة الشماء» كما حدثنا أبو القاسم الشابي قبل نحو قرن من الزمان.

(القدس العربي)

0
التعليقات (0)