آراء ثقافية

نحو تأريخ للثقافة الأممية عند جيرار ليكلرك

كتاب
كتاب
في القرن العشرين، كان هناك العديد من النماذج المتمازجة جديداً نتاجاً للثقافة والسياسة، أي المثقف والزعيم السياسي، فالمثقف بوصفه أولاً رجل علم ومعرفة وثقافة، سرعان ما ارتمى في السياسة، جاعلاً من التاريخ صلب اهتمامه، وبخلاف ذلك، أظهر الزعماء السياسيون قادة الشعوب والجماهير أنفسهم بوصفهم مفكرين أكثر مما عنوا بإظهار أنفسهم رجال سلطة، وسجلت ولادة المثقف تدخل السياسة في قلب الفكر الأوروبي.

كان المثقفون الأوائل الواعون لأنفسهم قد ظهروا في نهاية القرن التاسع عشر أي ورثة عصر الأنوار، وكانت المسائل الوطنية التي حركت المجتمع الفرنسي بعد قضية دريفوس الشهيرة وما حملته في تبعاتها من الجدالات الساخنة، ثم التمزق الأيدلوجي، جعلت المثقف لا يكتسب حقه إلا بحدود أعوام 1930م فصاعداً، وفي هذا التاريخ أشارت صفاته وأعماله ومعتقداته إلى ولادة المثقف المعاصر، فرأينا مثقفين من أمثال أندريه جيد وسارتر وفوكو.

إن تلك القضية التي تؤرق الفيلسوف الفرنسي جيرار ليكلرك يطرحها في كتابه "سوسيولوجيا المثقفين"، حيث يرصد تحولات المثقف التي ظهرت في طورها الأخير في زمن العولمة والثقافة الأممية العابرة للقوميات.

الثلاثينيات الساخنة

في بداية سنوات الثلاثينيات من القرن السابق، ظهرت العديد من المنظمات التي جمعت المثقفين المناهضين صعود الفاشية في ساحة الثقافة، وقامت التجمعات الكبرى التي كانت في آن واحد تجمعات أدبية وثقافية وسياسية، وانقسم المثقفون في أوروبا يفصل بينهم خط واضح، فجبهة تناصر الفاشية وجبهة تناهضها، في إطار عالمي، حيث أن الأحداث التي لفتت أنظار المثقفين صارت المحرك لهم أيضاً، وكانت تلك الأحداث تتمدد على خريطة العالم من ثورة البلشفيين في روسيا ووصول النازية والفاشية إلى السلطة في ألمانيا وإيطاليا، إلى جانب الحرب في إسبانيا وإثيوبيا، وبذلك أتاحت الفرصة في الثلاثينيات للمثقفين أن يعيدوا تجمعهم ضمن كتلتين متصارعتين.

كانت تلك الحقبة هي الحقبة التي تحدث فيها المثقفون الأوربيون عن العالم بأسره للمرة الأخيرة، فقد كانت تلك الفترة فترة احتضار للهيمنة الاستعمارية الأوروبية على العالم، وكانت باريس عاصمة أوروبا الثقافية، ولجأ إليها المثقفون المناهضون للفاشية من كل أوروبا، آملين في إيجاد ملاذ آمن، فقد جمعت باريس مدرسة فرانكفورت الماركسية بقيادة آدورنو وهوركهايمر، واجتاز المثقفون الحدود القومية، والتقوا في باريس وبرلين وموسكو معيدين تجمع أنفسهم تبعاً لمشارب أيدلوجية أو محازبة، كانت هناك أممية أوروبية جمعت المثقفين قد وجدت طريقها إلى النور في هذه الفترة بالذات.

وفي أعقاب هزيمة الفاشية ودول المحور، حصل إعادة تجميع للمثقفين بين المعسكرين في شهر عسل قصير كان بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، حيث ستؤدي الحرب الباردة بعد العام 1947 إلى إعادة إطلاق تصنيفات أخرى جديدة.

وبسرعة فائقة برز مفهوم "الستار الحديدي" حين اضطر المثقفون إلى تحديد خياراتهم بين طرفي الصراع، وانقسم مناهضو الفاشية على أنفسهم بين مؤيد لمعسكر السوفيات ومتحالف مع معسكر الغرب الأمريكي، وكان من أبرز أمثلة مثقفي ذلك العصر، سارتر الذي اختار بدوره معسكره، وكان حماسه بشكل شبه دائم تحالفاً مع الاتحاد السوفييتي وحرب لا هوادة فيها ضد المناوئين للشيوعيين.

الماركسية الخلابة

يرى جيرار أن سحر الماركسية الخلاب جعلها أكثر النظم الفكرية التي استطاعت بسط سيطرتها بوضوح طيلة القرن العشرين، فهي بدورها قد نشرت شكلاً من أشكال الاشتراكية أو الرغبة في الثورة، وكان الاتحاد السوفياتي مسرحاً لتجسدها بالنسبة للبعض، كما كان مسرحاً لمسخها بشكل كاريكاتوري عند البعض الآخر.

كانت الماركسية نظاماً قوياً لا وجود له في مكان آخر، بل كان نظاما عجائبياً، نظام فكري أتاح الإحاطة بالعديد من المعارف والممارسات بالفلسفة والعلم والسياسة والتاريخ، وقد كان تأثر الماركسية على الأنتلجنسيا الأوروبية كبيراً، أثر فيه صعود الأحزاب الشيوعية إلى السلطة، خاصة الفكر الماركسي اللينيني.

لقد كانت الماركسية أكثر الأيدلوجيات القادرة على صنع مثقفين أمميين عابرين للقوميات ومتسامين عنها، وقد وصفها ريمون آرون أنها "أفيون المثقفين"، وكان الحزب الشيوعي بعد ثورة أكتوبر 1917 وقيام الاتحاد السوفياتي كوطن للاشتراكية، تشكيلاً جديداً يصوغ العلاقة بين المثقفين والحزب، خاصة بجعلهم يطرحون أسئلة على أنفسهم تتعلق بعلاقتهم بالحزب سواء على المستوى الوطني كالحزب الشيوعي الفرنسي مثلاً، أو على الصعيد الأممي أي الحزب الأخ الأكبر المسيطر وهو الحزب الشيوعي السوفياتي.

لقد كان الحزب الشيوعي في روسيا في نظر المثقفين، كما يعبر عنه جان غرنييه ليس حزباً كالآخرين، فهو لا يمثل المصالح الخاصة لطبقة خاصة، بل مصالح كونية لطبقة كونية، طبقة البروليتاريا، والالتحاق بالحزب لا يعني إظهار روحية التحازب المتعصب والروح الفئوية، بل يعني الانفتاح على العالم ومصالح الإنسانية بكاملها.

خصوصية المثقف الفرنسي

حين يناقش ليكلرك مسألة أممية المثقف فإنه يلقي الضوء على أسئلة حول المثقف الفرنسي بشكل خاص، وهل يمكن اعتباره نمطاً كونياً، أو صورة للمثقف بامتياز، بحيث لا تكون التمثلات القومية الأخرى إلا استجابة شاحبة وضعيفة؟ أم أنه مجرد نموذج يتشابه والنماذج الأخرى؟ ونستثني أن فرنسا هي التي اخترعت المثقف واخترعت حقوق الإنسان، فلماذا كانت فرنسا؟

يرى ليكلرك أنه يتعين علينا أن نميز داخل الحداثة الغربية بين أوروبا الغربية والولايات المتحدة، وبين البلدان اللاتينية والأنكلوساكسونية أو البروتستانية، بين فرنسا وألمانيا وانكلترا وإيطاليا، فظهور المثقف وأهميته السياسية وبخاصة الملتزم تجاه قضية عالمية، نادراً ما يوجد في بلد مثل بريطانيا أو ألمانيا.

ما ميز المثقف الفرنسي في نظر ليكلرك غياب تجذره في الهوية المحلية، أو تميزه ببعد إثني ديني ثقافي وحضاري، وتلك هي الأمور التي تجعل المثقفين ذوو بعد قومي، أما المسائل التي تطرق إليها المثقفون الفرنسيون منذ ظهورهم عقب الثورة، كانت مسائل القومية ومناهضة السامية وحقوق الإنسان بالدرجة الأولى، وهي مسائل يمكن اعتبارها بمعنى ما مسائل عابرة للقوميات، مسائل أوروبية وكونية، ولا تتوقف عند إطارها المحلي داخل المجتمع الفرنسي.

هل أصبحت الثقافة أممية؟

تعددت المحاولات التي حصلت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية التي هدفت لإيجاد لغة مشتركة أو ممارسة جماعية ثقافية تتجاوز مجرد كونية العلم الطبيعي أو التقنيات، دون الوصول إلى نتائج مرضية، ورمزت اليونسكو إلى هذه النتائج، وجائزة نوبل أيضاً كرمز للخروج عن الإثنية المركزية، وشكلت الانتلجنسيات وبشكل تقليدي جزءًا من النخبة العالمية، فهي تعتبر في مجتمعاتها وضمن الأمم المتحدة بمثابة نموذج ومثال، مما يمكن التنبؤ بأننا على إزاء رؤية تشكل نخبة مثقفة أممية، تتجاوز أممها وتتعالى على الحدود.

رغم أن ليكلرك يرى أن العالم الحاضر يمتاز بأبعاده الأممية، التي تتجاوز الثقافات، فمسائل مشتركة كالنمو الديموغرافي واللامساواة الاجتماعية والهجرة والصراعات الإثنية ومسائل الأمن والضمان والتلوث، هي مسألة تجاوزت اهتمامات المثقف القومي، ويتشاركها مثقفو العالم حالياً.

إلا أن تجاوز المثقف الاهتمامات القومية، لا يعطي عمله مباشرة الحق بادعاء بعد أممي أو عالمي، فالخطاب القومي سيظل لاعباً رئيساً، وله السيطرة على المثقف، حيث يتجلى في ولادته ولغته الأم ووضعه المهني والعلمي وهويته المكتسبة، وحتى لو انعكست الأممية في بعض الحالات في خطاب المثقف القومي في أشكال كترجمة الآثار إلى لغات أجنبية، أو المؤتمرات الثقافية العالمية.
1
التعليقات (1)
نسيت إسمي
الثلاثاء، 31-08-2021 03:55 م
'' كتاب بحوث غير مألوفة '' برتراند راسل ربما يعود إطلاق اسم “بحوث غير مألوفة” على كتاب الفيلسوف الانكليزي برتراند راسل إلى صدوره عن فيلسوف ورياضي وعالم اجتماع إنساني كبير وباحث متعمق في الفكر السياسي والدين وعلم الأخلاق، فالكتاب الذي يضم مجموعة من البحوث كتبت على مدار خمسة عشر عاماً، هي بمجملها أقرب إلى الخواطر منها الأبحاث الفلسفية الممنهجة، وآراءً تخص الفلسفة في قسمها الأكبر، يتناول فيها راسل وعلى غير عادته في مؤلفاته الأخرى كل موضوعات المعرفة الإنسانية من فلسفة وعلم اجتماع وسياسة ودين من وجهة نظر ناقدة وتهكمية إلى حد كبير، فهي في مجملها سخرية من الآراء الفلسفية التي أثرت في مسيرة العلم والحياة الإنسانية منذ فجر المعرفة. برتراند راسل (بالإنجليزية: Bertrand Russell)‏ (18 مايو 1872 – 2 فبراير 1970) إيرل راسل الثالث، فيلسوف وعالم منطق ورياضي ومؤرخ وناقد اجتماعي بريطاني. في مراحل مختلفة من حياته، كان راسل ليبرالياً واشتراكياً وداعية سلام إلا أنه أقر أنه لم يكن أياً من هؤلاء بالمعنى العميق. وعلى الرغم من قضائه معظم حياته في إنجلترا، وُلد راسل في ويلز حيث توفي عن عمر يناهز سبعة وتسعين عاما. كان راسل ناشطاً بارزاً في مناهضة الحرب وأحد أنصار التجارة الحرة ومناهضة الإمبريالية. سجن بسبب نشاطه الداعي للسلام خلال الحرب العالمية الأولى. قام بحملات ضد أدولف هتلر وانتقد الشمولية الستالينية وهاجم تورط الولايات المتحدة في حرب فيتنام كما كان من أنصار نزع الأسلحة النووية.