قضايا وآراء

الأقصى وردود الفعل العربية والإسلامية (5)

علي إبراهيم
1300x600
1300x600

مسار التواطؤ والتطبيع

 

تناولنا في هذه السلسلة أبرز ميادين التفاعل مع المسجد الأقصى عربياً وإسلامياً، ونتناول في هذا المقال الجانب الآخر من التفاعل، وهو التواطؤ مع المحتل والتطبيع معه. وقد حفل عام 2021 بالعديد من محطات التطبيع العربية مع الاحتلال، خاصة أن المسجد الأقصى المبارك كان حاضراً في بنود اتفاقيات التطبيع التي وقعتها الإمارات والبحرين مع الاحتلال، في الوقت الذي استمر فيه الاحتلال في استهداف المسجد الأقصى المبارك، ومحاولاته استهداف الوصاية الأردنية على المسجد الأقصى. وهذا ما يجعل هذا المسار أحد أبرز التحديات التي تواجه الجهات العاملة للقدس والأقصى، وهو سكين في خاصرة الأمة، يحتاج إلى المزيد من العمل والمواجهة، خاصة أن الرفض الشعبي للتطبيع ما زال في أوجه في العديد من البلدان على رأسها المغرب والأردن.

وقد شكل مسار التطبيع أبرز المخاطر التي تتعرض لها القضية الفلسطينية، وكان من سمات هذه الموجة أن وضعت الدول المطبعة المسجد الأقصى في مهدافها، فلم تكتف بتطبيع علاقاتها مع الاحتلال فقط، بل تساوقت مع رؤيته حول المسجد الأقصى، وشاركت وفود عربية في اقتحام الأقصى.

وشهد عاما 2020 و2021 المزيد من ولوغ جل دول مجلس التعاون الخليجي في تطبيع علاقاتها مع الاحتلال. وكانت اتفاقية "أبراهام" التي وقعتها دولتا الإمارات والبحرين في 15 أيلول/ سبتمبر 2020، أبرز محطات الهبوط الخليجي، خاصة أن هذه الاتفاقية استهدفت في بنودها المسجد الأقصى، وشرَّعت اقتحامات المستوطنين والمطبِّعين للمسجد، وأداء الشعائر الدينيّة اليهوديّة فيه، حين جعلت لليهود "حقّاً" مساوياً لحقّ المسلمين في الصلاةِ فيه، وبعد أن شدد الاتفاق على أن تظلّ الأماكن المقدسة الأخرى في القدس مفتوحة للمصلين "المسالمين".

ومما أثار موجة من الرفض ادعاء الإمارات أنها وقعت الاتفاقية لتحقيق المزيد من المكاسب للقضية الفلسطينية، وأن الاحتلال سيعلق عملية ضمّ أراضٍ من الضفة الغربية، على الرغم من أن البيان نفسه يذكر أن "تعليق الضم" كان بطلب من ترامب، وأن تعليق الضمّ كان قد تمّ قبل نحو شهر ونصف من التوقيت الذي أعلنته الإمارات، ولكنها محاولة لتبييض صفحة الإمارات ومحاولة إخفاء جريمة التطبيع.

وعملت الإمارات على تسريع وتيرة التطبيع بشكل تجاوزت فيه كل السقوف المتوقعة، وعلى أثر اتفاقية التطبيع عقدت عدداً من اتفاقيات التطبيع مع الاحتلال من النواحي الاقتصادية والاستثمارية والخدمات المالية، والطاقة والأمن والتكنولوجيا والإعلام والسياحة والبحث العلمي والنقل وقطاعات أخرى.

ولم تكن اقتحامات وفودٍ عربية للمسجد الأقصى من بوابة الاحتلال أمراً قابلاً للتصديق منذ سنوات ماضية، ولكن الدول المطبعة جعلت هذا الأمر واقعاً، خاصة أنها استهدفت تعريف الأقصى والوصاية ضمن اتفاقياتها المشينة. وشهد الأقصى في مدة الرصد اقتحامات وفودٍ خليجية دخلت إلى المسجد بحماية قوات الاحتلال، ولكنها توقفت على إثر رد فعلٍ المقدسيين الحازم تجاه المطبعين، ثم عادت منذ أسابيع قليلة.

وكان أول الاقتحامات العربية في 15 تشرين الأول/ أكتوبر 2020، إذ اقتحم الأقصى وفدٌ إماراتي مكون من 10 أشخاص، بحماية قوات الاحتلال، أما الثاني ففي 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2020، إذ أفادت مصادر مقدسية أن أربعة إماراتيين أدوا الصلاة في مصلى قبة الصخرة داخل الأقصى، تحت حماية مشددة من قوّات الاحتلال ومخابراته. أما الثالث فكان من أسابيع قليلة، اقتحم ساحة البراق وشارك في صلوات اليهود أمام حائط البراق.

وفي إعلان ترويجي لشركة الاتحاد للطيران الإماراتية بعنوان "زيارة تل أبيب"، لرحلات إلى كيان الاحتلال بداية من 28 آذار/ مارس 2021، استخدمت الشركة صورة لمجسم أسمته "الهيكل الثاني" اليهودي. وظهرت في الإعلان المرئي صورة لأحد الأزقة بالبلدة القديمة من القدس المحتلة، بوصفه أحد المعالم الإسرائيلية. ومعلوم أن الرواية الرسمية الإسرائيلية تقول إن "الهيكل الثاني" كان موجوداً في المكان الذي يوجد فيه المسجد الأقصى الآن.

ومنذ عقد اتفاقيات التطبيع ودخول السودان ومن ثم المغرب، يبرز ترويج من قبل الاحتلال ووسائل إعلام غربية إلى انضمام دول أخرى إلى قافلة التطبيع، وتُسلط هذه المعطيات الضوء على دور للمملكة العربية السعودية في رعاية اتفاقيات التطبيع هذه، إذ يطرح مراقبون إمكانية توقيع اتفاقيات التطبيع والجنوح المتزايد باتجاه الاحتلال من دون وجود ضوء أخضر سعودي، خاصة ما كشفته وسائل إعلام غربية عن تطور العلاقة بين الاحتلال والسعودية على ثلاثة مستويات؛ الأول هو مستوى أمني برعاية أمريكية، أما الثاني فهو مستوى اقتصادي تصاعد على إثر تطبيع الإمارات، والثالث هو مستوى ديني أسهمت فيه رابطة العالم الإسلامي.

هذه المستويات ترفضها مصادر المملكة الرسمية حالياً، ولكنها تلمح إلى إمكانية التطبيع مع الاحتلال في نهاية المطاف. فقد صرح وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود أن تطبيع العلاقات مع الاحتلال الإسرائيلي "أمر من المتصور حصوله في النهاية"، وقال: "لكن ينبغي أولاً إقرار اتفاق سلام دائم وكامل يضمن للفلسطينيين دولتهم بكرامة".

ويشار إلى أن وسائل إعلام عبرية كشفت نقلاً عن مصادر إسرائيلية رسمية، أن رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو توجّه على متن طائرة إسرائيلية، يوم 22 تشرين الأول/ نوفمبر 2020، إلى السعودية برفقة رئيس جهاز الموساد يوسي كوهين، واجتمع مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في مدينة نيوم السعودية، بحضور وزير الخارجية الأمريكية حينها مايك بومبيو، إلا أن وزير الخارجية السعودي نفى عقد الاجتماع.

وبالمقابل، أدان ملك السعودية سلمان بن عبد العزيز العدوان الإسرائيلي على القدس المحتلة، وقطاع غزة. وأكد، في اتصال هاتفي مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، "موقف المملكة الثابت والداعم للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة"، مشدداً على أن السعودية "تبذل جهوداً متواصلة مع الأطراف العربية والإسلامية والدول ذات العلاقة لوقف اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني ومقدساته".

وبرزت الكويت بمواقفها الثابتة من القضية الفلسطينية، والرافضة للتطبيع مع الاحتلال، ففي ظلّ تهافت بعض الدول على تطبيع علاقتها مع الاحتلال، ورداً على محاولة إدارة ترامب الترويج بأن الكويت ستكون من الدول التي ستطبع علاقاتها مع الاحتلال؛ جدَّدت مصادر حكومية كويتية التأكيد على أن موقف الكويت من التطبيع ثابت ولن يتغيّر، مشددة على أن الكويت لا تواجه أي ضغوط لتغيير موقفها الراسخ والرافض للتطبيع.

وتقدم عدد من أعضاء مجلس الأمة الكويتي، بينهم مرزوق الغانم، بطلب للتعجيل بقيام المجلس ولجانه بالبتّ في القوانين المقترحة المقدمة بشأن "مقاطعة إسرائيل، وحظر التعامل أو التطبيع مع الكيان الصهيوني". كذلك نفى الغانم مشاركة الكويت، على أي مستوى كان، في مراسم توقيع اتفاق التطبيع الذي تمّ التوقيع عليه في 15 أيلول/ سبتمبر 2020، في واشنطن.

وهنا يبرز شرخ جديد على صعيد المواقف العربية عامة والخليجية على وجه الخصوص، ما بين دول تسارع إلى التطبيع وتخطب ود الاحتلال في السر والعلن، وبين دول أخرى تظل ثابتة على مواقفها من التطبيع على غرار الكويت، وصنف ثالث هو أقرب إلى توقيع اتفاقيات التطبيع من أي وقتٍ مضى، وهي الدول التي أوردنا على ذكر بعضها آنفاً.

ولم تقف الإمارات عند الخطوات التي قامت بها فقط، بل عملت على تشبيك المزيد من العلاقات التي تصب في خدمة الاحتلال، وتذليل خطوات التطبيع. ففي 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021 وقعت كل من دولة الاحتلال والأردن والإمارات اتفاقية "الكهرباء مقابل الماء". وتشمل الاتفاقية عدداً من المشاريع في مجال الطاقة والمياه، يصدر الأردن الطاقة النظيفة إلى دولة الاحتلال، في مقابل تصدير المياه المحلاة على الجانب الآخر. وعلى الرغم من الرفض الشعبي الأردني للاتفاقيات، إلا أن الجانب الأردني لم يقم بأي ردة فعل تجاهها، وهذا ما يفتح المجال أمام المزيد من ربط الاقتصاد الأردني والقطاعات الحياتية للأردنيين.

وفي ختام المقال يمكننا تسجيل ملاحظة أخيرة، عن تناقض آخر وقع فيه أبرز الأحزاب المغربية ذات المرجعية والخطاب الإسلامي. فقد دفع حزب العدالة والتنمية المغربي ثمناً باهظاً لموافقته على أن يكون واجهة التطبيع مع دولة الاحتلال، إذ استخدم "المخرن" (بالتعبير المغاربي للنظام) حزب العدالة والتنمية ليكون واجهته لتوقيع الاتفاقية، بل والتبرير لها، على الرغم من المواقف الرافضة التاريخية للحزب ورموزه وأبرز مؤسسيه. واللافت هو خروج الحزب من المشهد السياسي في المغرب في أول انتخابات بعد التطبيع، وهذا ما جعل خسارته في جانب القيم والثوابت ومن ثم في جانب الحضور السياسي مضاعفة، وهو درسٌ بالغ الأهمية لمختلف الأحزاب والأطياف العربية والإسلامية بمختلف مرجعياتها وأيديولوجياتها.

التعليقات (0)