كتاب عربي 21

خيراً فعل حمدوك

جعفر عباس
1300x600
1300x600

لا شك في أن د. عبد الله حمدوك تميز بقدر هائل من الرصانة والتهذيب في مخاطباته العامة، وفي أنه بذل جهدا طيبا لتصريف مهامه كرئيس للحكومة السودانية من آب/ أغسطس 2019 حتى 25 تشرين أول/ أكتوبر 2021، عندما نفذ قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان انقلابا على الحكومة، وظل حمدوك طوال تلك المدة محل كثير من الاحترام داخليا وخارجيا، ولكنه أخطأ التقدير بأن قبل أن يعود إلى منصبه اعتبارا من 21 تشرين الثاني/ نوفمبر في ظل السلطة الانقلابية بموجب توافق "شخصي" بينه وبين البرهان لا يسنده قانون أو دستور، وبذلك تجاهل حمدوك القوى المدنية التي أتت به إلى منصبه، فكان بديهيا أن تنفض تلك القوى من حوله، وأن تنتفض لإسقاط الانقلاب بتسيير المواكب الحاشدة.

حاول حمدوك بعد عودته إلى منصبه بأمر قائد الانقلاب تشكيل حكومة تجد قدرا من القبول العام، ولكن القوى المدنية والسياسية ذات الثقل الجماهيري رفضت التعامل معه باعتبار أنه يخضع لسلطة انقلابية غير شرعية، ومن جهتهم رفض الموالون للانقلاب إعطاءه هامشا يسمح له باختيار من يشاء من الوزراء التكنوقراط، بأن طالبوا بنصيب معلوم من كعكة الحكم، وزاد موقفه حرجا أن البرهان واصل التصرف كحاكم مطلق يوزع المناصب والرتب العليا على مريديه ويلاحق بعنف بالغ كل من يأنس فيه معارضة لسلطاته، بل ويمارس السحل والقتل بحق من يخرجون إلى الشوارع مطالبين بمدنية الدولة في سياق مظاهرات سلمية لا يملك من يسيِّرونها سوى الهتاف.

برر حمدوك عودته إلى منصبه وقبول التوافق مع البرهان بالحرص على المحافظة على المكاسب التي حققتها حكومته منذ عام 2019 ولحقن الدماء، وذلك بعد أن أزهقت قوات الأمن أرواح العشرات منذ حدوث الانقلاب، وخلال الفترة ما بين عودة حمدوك إلى منصبه واستقالته منه، خرجت تسعة مواكب في العاصمة وكبريات المدن السودانية وفي كل موكب سقط العديد من القتلى ومئات الجرحى بالذخيرة الحية، وهكذا اتضح أن حمدوك عاجز عن "حقن الدماء"، وزاد طين حمدوك بلة أن البرهان أصدر قرارا أطلق به أيدي القوات النظامية لتفعل ما تشاء بخصومه وهي محصنة ضد المساءلة.
 
ورغم أنه كان معلوما أن العسكر الذين صاروا شركاء في الحكم بعد إقصاء نظام عمر البشير في نيسان/ إبريل من عام 2019 كانوا يضعون العصي في دواليب حكومة حمدوك منذ يومها الأول، ورغم أن حمدوك وجد نفسه عاجزا عن تشكيل حكومة جديدة طوال الأسابيع الستة الماضية، لأن العسكر ظلوا يجردونه من كل صدقية ويحركون أنصارهم من رجالات الإدارة الأهلية والطرق الصوفية (أو بالأحرى التي تزعم التصوف) كي يضغطوا على حمدوك كي يعترف بهم حاضنين لحكومتهم ويعطيهم من ثم نصيبهم من غنائم الحكم؛ رغم كل ذلك حمّل حمدوك في خطاب استقالته القوى المدنية والسياسية وحدها وزر فشله في الاستمرار في منصبه بفعالية، ولم يعتب قط على عسكر الانقلاب.

 

باستقالته يكون حمدوك قد جرد البرهان من تلك القشرة الديكورية، وما هو أهم من كل ذلك، هو أن ذلك الاتفاق، والذي أراده البرهان وثيقة للحكم، وعلى بطلانه ابتداء، صار كامل البطلان، لأن الطرف الثاني فيه تنصل عنه تماما، وبهذا يكون حمدوك قد قدم عن قصد أو غير قصد خدمة جليلة للمعسكر المناهض للبرهان وحكم العسكرتاريا،

 



ولكن لابد أن نحمَد لحمدوك تقديمه استقالته، لأن وجوده في منصبه تحت إمْرة البرهان أدى إلى شروخ في صفوف القوى المدنية المناهضة للحكم العسكري، فهناك من رأى أن حمدوك، وبقبوله العودة إلى منصبه قادر على إجهاض الانقلاب من "الداخل"، بينما ظلت معظم القوى المدنية في خندق مناهضة السلطة الانقلابية "بمن فيها حمدوك"، وبخروج حمدوك من المشهد، يصبح التمييز بين الخيطين الأبيض والأسود سهلا، أي أن جميع القوى المدنية التي أشعلت الثورة ضد نظام البشير وعارضت انقلاب البرهان الأخير عادت موحدة، وعازمة على اسقاط الانقلاب وإعادة العسكر إلى الثكنات.

ومن المؤكد أن استقالة حمدوك من منصبه جعلت الموقف في السودان ضبابيا وممعنا في الرمادية، ليس لأنه كان يحمل عصا موسى، وليس لأن حواء السودانية عاقر ولم تنجب من يصلح لرئاسة الحكومة خلفا لحمدوك، ولكن لأن العسكر الذين خلا لهم الجو بانصراف حمدوك عن منصبه ليبيضوا ويصفروا، سيصبحون أكثر ميلا للبطش الأهوج بكل من يعارض سلطتهم، ولكن، وبالمقابل ستتعزز صفوف المناوئين للانقلاب بعودة الحمدوكيين إلى خندقهم، وستكون مقاومتهم للعسكر أكثر عنفوانا، ولكن بقدر هائل من التضحيات حتى تصدق مقولة أن الكثرة تغلب القوة.

ظل حمدوك ومنذ أن ارتضى العودة إلى منصبه في 21 تشرين الثاني/ نوفمبر، بعد توقيع اتفاق مع البرهان كان في جوهره شرعنة للانقلاب، يمثل الديكور "المدني" الذي ناشده البرهان كي ينفي عن نفسه إقامة نظام عسكري بالكامل، وباستقالته يكون حمدوك قد جرد البرهان من تلك القشرة الديكورية، وما هو أهم من كل ذلك، هو أن ذلك الاتفاق، والذي أراده البرهان وثيقة للحكم، وعلى بطلانه ابتداء، صار كامل البطلان، لأن الطرف الثاني فيه تنصل عنه تماما، وبهذا يكون حمدوك قد قدم عن قصد أو غير قصد خدمة جليلة للمعسكر المناهض للبرهان وحكم العسكرتاريا، بأن أسقط ورقة التوت التي أراد بها البرهان ستر نواياه، واستحق أن يقال له: خيراً فعلت.


0
التعليقات (0)