كتب

التاريخ في خدمة الجغرافيا.. الاحتلال إذ يُزيّف هوية المنطقة

قدَّم الباحث عرضا للحفريات المشبوهة والأنفاق التي بدأ الاحتلال بحفرها في القدس منذ احتلالها عام 1967
قدَّم الباحث عرضا للحفريات المشبوهة والأنفاق التي بدأ الاحتلال بحفرها في القدس منذ احتلالها عام 1967

الكتاب: "اغتصاب الذاكرة: الاستراتيجيات الإسرائيلية لتهويد التاريخ"
المؤلف: إيهاب الحضري
الناشر: الفؤاد للنشر والتوزيع، 2021

يتصدى الكتاب، الذي بين أيدينا، لواحدة من أكثر الممارسات الصهيونية إجرامًا، في حق الأمة العربية، فالصهيونية احتلال استيطاني، سعى لخلق دولة جديدة، على أرض فلسطين، وإحلال اليهود محل أهل فلسطين الأصليين، من خلال الإبادة، والتهجير؛ ما استلزم أن تُحاط تلك الدولة بالأساطير، الدينية التاريخية، لتهب الصهاينة الحق في اغتصاب الأرض، وإبادة السكان الأصليين، بادعاء أنهم محتلين! لذا، فقد كان التاريخ، والآثار التاريخية، أحد الفضاءات التي عمد الصهاينة إلى تزييفها، خدمة لأهدافهم العنصرية.

لم يتعرض المؤلف إلى مدى صدق، أو كذب، النصوص الواردة في "الكتاب المقدس"، حول أحداث تاريخية، مرت ببني إسرائيل، لكن الحضري توقَّف أمام "الحدود الفاصلة بين القصة الدينية، كواقعة تاريخية، وبين ملاءمتها لدور وظيفي، مرتبط بالعقيدة"، ولم تظهر المشكلة، إلا مع محاولات الربط بين القصص الواردة بـ"الكتاب المقدس"، والتاريخ الذي أثبتته الاكتشافات الأثرية. ومع تنامي السعي الصهيوني، للبحث عن "أسانيد أثرية للنصوص التوراتية"؛ ما يساعد دولة الاحتلال على تبرير ممارساتها ضد فلسطين، الأرض والشعب.

انطلق المؤلف، في تعامله مع القصة الدينية، من فرضية أساسية، "باعتبارها حقيقة راسخة، لا يمكن التشكيك فيها، ولكن دون أن تمتد هذه اليقينية إلى تفاصيلها... فالزمان، والمكان، وأيضًا، مستوى الحدث تتحول كلها إلى أمور تحتاج إلى وقفة"، لأن "أهمية الحدث في سياق الدين، لا يعني، بالضرورة، أهمية مماثلة في النسق التاريخي. فقصة أهل الكهف، مثلاً، وردت في القُرآن، لتُمثل إحدى سردياته الأساسية، لكنها غابت، تمامًا، عن الأنساق التاريخية"، على غير ما يتعلق ببني إسرائيل، حيث المحاولات المستميتة للصهاينة للتوحيد بين النسقيْن، الديني والتاريخي؛ ليكون "التاريخ مبرر لاغتصاب الجغرافيا".
خرج الكتاب في مئتين وثلاثين صفحة، من القطع الكبير، توزعت فصوله على قسمين، الأول "الشق التوثيقي"، والثاني هو "الشق التحليلي". 

وقد حصل الكتاب على جائزة "جمعية أصدقاء أحمد بهاء الدين"، وللمؤلف اهتمام خاص بالآثار، ودوَّن كتبًا أخرى عن الآثار، مثل: "حواديت المآذن.. التاريخ السري للحجارة"، و"هدير الحجر.. التفاصيل السرية لمعركة إنقاذ الآثار".

التاريخ في خدمة الجغرافيا

تحت عنوان "التاريخ في خدمة الجغرافيا"، عرض الحضري للممارسات الصهيونية، الرسمية وغير الرسمية، ضد الآثار العربية، الإسلامية والمسيحية، في المدن، والبلدات الفلسطينية المحتلة، منذ عام 1967، وبعد أربعة أيام من احتلال القدس، عندما شرعت قوات الاحتلال في هدم حي المغاربة، والاستيلاء على المتحف الفلسطيني، ونهب مقتنياته، كما استعرض العمليات التالية، التي استُخدمت فيها آليات عسكرية، وطائرات حربية، بديلاً عن الجرافات، في عملية "هدم ثقافي، تشبه التطهير العرقي". 

وأكد المؤلف أن تلك الممارسات تهدف إلى تزييف الحقائق، من خلال إضفاء صبغة توراتية على أي أثر يتم الاستيلاء عليه، وضم المواقع الأثرية العربية إلى قائمة التراث العالمي، وما لا يمكن تطويعه، من الآثار الفلسطينية، يتم تدميره. وقد حدث في حزيران/ يونيو 2000، أن تقدَّم وزير التعليم الصهيوني، ورئيس "اللجنة الوطنية الإسرائيلية للإيكوموس"، يوسي ساريد، برسالة إلى "مركز التراث العالمي"، تضمَّنت أسماء 29 موقعًا أثريًا، لتُسجَّل بوصفها "مواقع أثرية إسرائيلية"، من تلك المواقع طريق الحج بين مكة، والقدس، إضافة لوادي الأردن، وخليج العقبة!

تطرق الفصل الأول، أيضًا، لممارسات الاحتلال الممنهجة، ضد الآثار العربية، في نابلس، وبيت لحم، ورام الله، وجنين (آذار/ مارس 2002)، وعرض، بشكل مختصر، لتقرير اتحاد مهندسي نابلس، وإشارته إلى أن ما تم تدميره، بشكل كلي أو جزئي، بلغ ما يُقارب الثلاثمائة أثر، وأشار إلى المعركة الدبلوماسية، التي قادتها مصر، في اليونيسكو (حزيران/ يونيو 2002)، لإدانة تلك الممارسات، وكيف تصدَّت الولايات المتحدة الأمريكية، ضد استصدار مثل تلك الإدانة. 

قدَّم الباحث عرضًا موثَّقًا، للحفريات المشبوهة، والأنفاق، التي بدأت قوات الاحتلال بحفرها، في القدس، منذ احتلالها، عام 1967،  بشكل هستيري، سعيًا لاكتشاف تاريخ مزعوم، وما يترتب على تلك الحفريات من تصدُّعات في المباني، التي تمر الأنفاق من تحتها، سواء كانت مباني أثرية، أو مباني سكانية، وما يُصاحب تلك الحفريات من عمليات تزييف، ودعاية كاذبة، تُروَّج خدمة لممارسات الاحتلال العنصرية. كذلك ألقى الفصل الضوء على بعض الهجمات العسكرية، التي يقوم بها المتطرفون، ضدَّ الآثار العربية، ومحاولات استهداف المسجد الأقصى، مثل حريق المسجد الأقصى (آب/ أغسطس 1969)، وقد أعلن جهاز "الشاباك": "أن التهديد بنسف المسجد الأقصى، وصل إلى معدل أعلى من درجة التهديد باغتيال رئيس الحكومة". 

وعلى الرغم من أن تلك المحاولات جاءت خارج سياق ما هدف إلى عرضه الكتاب، فإنها تشير إلى مدى تأثير الدعاية الصهيونية العنصرية، ضد العرب. كما أشار الباحث للأعمال الفنية، التي تمضي في ذات السياق، وهو عرض فيلم "الاتفاق" (شباط/ فبراير 2001)، الذي يطرح إمكانية تفجير المسجد الأقصى، وكيف أعرب المؤلف عن أمله في أن يحصل الفيلم على "جائزة أوسكار". كما أشار الفصل إلى قرارات المسئولين الصهاينة، بوقف ترميم الآثار العربية، الإسلامية، والمسيحية، ومنع إدخال مواد البناء إلى المباني الأثرية، بهدف ترميمها.

الفصل العنصري للتاريخ

عن "جدار الفصل العنصري"، وتأثيرات بنائه على المواقع الأثرية الفلسطينية، تخصَّص الفصل الثاني، وفيه عرض المؤلف لنتائج المسوح، الفلسطينية، والإسرائيلية، والبريطانية للمواقع الأثرية، في القدس، والضفة، حيث تشير إلى عدد هائل من المواقع التراثية، يتجاوز إثني عشر ألف موقع، وما يزيد عن سبعين ألف بيت تقليدي، إضافة إلى إثني عشر ألف بيت، ومبنى عام، في المدن التاريخية الأربعة (القدس، نابلس، الخليل، وبيت لحم)، كل هذا في مساحة لا تتجاوز الـ5595,5 كيلومتر مربع، أي أن كل كيلو متر مربع يضم 2,14 موقعًا، و14,65 بيتًا، أو مبنى عام. قياسًا على تلك النتائج، فإن بناء "الجدار العازل"، بطول 617,83 كيلومتر مربع، سيتسبب في إتلاف 10317,76 أثرًا، خلافًا لتفكيك المشهد الحضاري للمدينة، وخلخلة الترابط الحضاري بين المواقع الأثرية، كما يريد الاحتلال أن يفعل بالقدس، فسيترتب على "غلاف القدس" حالة من العزل الحضاري للمدينة، وسيؤدي بناء هذا الجدار إلى سلب مواقع حضارية، وضمها إلى إسرائيل، فضلاً عن التأثير على مسارات البحث العلمي، مستقبلاً. وأكد الحضري أن اغتصاب التاريخ الفلسطيني، تم، بتخطيط، وتورية، من خلال استحضار مشكلات حاضرة، تجذب الانتباه.

كذلك وضَّح المؤلف أن "حشر" أعداد كبيرة من السكان العرب، في مساحات ضيِّقة من الأراضي الفلسطينية، في الضفة الغربية، والتي ستضيق أكثر، مع النمو السكاني؛ ما يترتب عليه تدمير الفلسطينيين لآثار بلادهم، نظرًا "لأن الحاجة الملحة لتوسيع البنية التحتية، سوف تقترب من الحدود المباشرة للمواقع، والمعالم الأثرية، والقرى التقليدية؛ مما يساهم في مضاعفة التفكيك، والتدمير، لمصادر التراث الحضاري الفلسطيني. والمشكلة الأساسية الأخرى، هي التفكيك الدراماتيكي للتكوين التاريخي لاستخدامات الأراضي، وبهذا سوف نجد أنفسنا أمام اندثار مصادر التراث الحضاري، وفقدان مصادر كتابة التاريخ الحضاري". ثم سرد الباحث أمثلة للمستعمرات الصهيونية، التي تم بناؤها على مواقع أثرية فلسطينية (كوخاف هشاحر، شاني شومرون، كفار تفوح، شيلوا، علمون، أوفيم، حبلة، عطارون، عوفرة). كما عرض الفصل للمحاولة الأمريكية/الصهيونية شطب القدس من قائمة التراث العالمي، والتي تم الكشف عنها، في اجتماع خبراء الآثار العرب (نيسان/ أبريل 2004).

اغتصاب التاريخ العربي

فور احتلالها سيناء، في حزيران/ يونيو 1967، بدأت البعثات الأثرية الإسرائيلية تتوافد عليها، مفتتحة عملها في قلعة تل الطينة، بشمال سيناء، وتوالت البعثات، بعدها، وقامت إسرائيل بنشر نتائج تلك البعثات، وهو ما جُمع في أربعة عشر مجلد، وتم نهب الكثير من الآثار المصرية، وتهريبها، لصالح الكيان الصهيوني، أو لصالح شخصيات قيادية فيه، منهم موشى ديان، وقد خضعت استعادة تلك الآثار، سنوات من البحث، والدراسة، ثم التفاوض مع العدو الصهيوني، حتى عام 1994. وهذا ما تعرَّض له الكاتب في صفحات الفصل الثالث، الذي تضمَّن، أيضًا، ذكر محاولات تهويد التاريخ المصري، والتاريخ الإسلامي؛ كما أورد الفصل نماذج لمحاولات الصهاينة نهب، أو شراء الآثار اليهودية المصرية، بادعاء أنها تخص إسرائيل، نظرًا لأنها آثار يهودية.

جاء الفصل الرابع، تحت عنوان "اقتباسات حضارية"، وفيه تحدَّث المؤلف عن استهداف التاريخ السوري، وعرض لما حدث مع آثار رأس شمرا، حيث اكتُشفت "مدينة أوغاريت " القديمة، العام 1928، بمحض الصدفة، ومحاولات الباحث الصهيوني، إيمانويل فليكوفكسي، تحريك تاريخ المدينة، وربطها بـ"مملكتيْ داود وسليمان"، وقد قال "إن قضيتي الجدلية، التي أُناضل من أجلها، هي إثبات أن العصر العظيم للأسرة الثامنة عشرة في مصر، ومملكتيْ داود، وسليمان، والعصر المنواني الحديث (في كريت)، والعصر المسيني الحديث (في اليونان)، كلها عصور بدأت متزامنة، في عام 1000ق م"، وذلك لربط الازدهار الحضاري القديم ببني إسرائيل"، على الرغم مما تحمله تلك الآراء من سذاجة، وخيال، فإن عدم التصدي لها، قد يُحوِّلها إلى حقائق علمية، يحتاج محو تأثيرها إلى عناء، واستشهد الكاتب بموقف الحكومة السورية، منتصف سبعينيات القرن الماضي، مع البعثة الإيطالية بمدينة إيبلا السورية، عندما نشر البروفيسور بتيناتو، رئيس جماعة التنقيب في البعثة، "ترجماته  الخاصة لرقيمات، رأى أنها تُثبت صحة الروايات التوراتية، وتُقدم دليلاً قاطعًا على أصول اليهود في بلاد الشام"؛ ما دفع الحكومة السورية إلى طرد البعثة، ووضع اليد على الموقع، حتى اعتذرت البعثة عما نشرته، وإن كان الاعتذار في الداخل السوري، ولم يُنشر في الخارج، ثم قامت سوريا بتشكيل لجنة عالمية، من المتخصصين في اللغات السامية القديمة، والكتابات المسمارية، وتوصلت اللجنة إلى "معطيات جديدة، وهامة، باعتراف الوسط العلمي الغربي.

 

إن أي بلد، ذو حضارة قديمة، لم يفلت من محاولات ربط حضارته القديمة ببني إسرائيل، فاتجهت البعثات الأثرية للبحث عن "مملكة سبأ"، في اليمن، وعن "بابل"، في العراق، فضلاً عن نهب متحف بغداد، بالاستعانة بآلاف السجناء المدانين في قضايا جنائية، ليبدو المشهد أن العراقيين يسرقون تراثهم.

 



أما الجولان، فتتعرض آثارها لسطو مادي، منذ احتلالها، العام 1967، حيث قام الاحتلال بمسوحات، وحفريات، وتخريب لكثير من الآثار، "خدمة لنظريات سياسية توسعية، وأفكار توراتية، تعطي اليهود، حصرًا، حقوقًا مزعومة، وتربط تاريخ الجولان بالتوراة، وأحداثها، وتلغي، عن سابق إصرار، وجود أي دليل يناقض تلك النظريات". وعرض المؤلف لسرقة، وتدمير الاحتلال لآثار الجولان، منذ احتلالها، وأثناء انسحابه من مدينة القنيطرة، وخلال عامه الأول من احتلاله الجولان، قام الاحتلال الصهيوني بمسوح، شملت 209 مواقع؛ ما يُشير إلى الاهتمام الصهيوني بالآثار القديمة.

لم يسلم لبنان من تلك الممارسات، فمع اجتياح قوات الاحتلال لها، العام 1978، بدأت عمليات المسوح، واهتم الصهاينة بقبر حيرام الفينيقي، ذلك لأن مؤرخًا صهيونيًا، هو يوسفينوس، أشار إلى علاقة صداقة ربطت هذا الملك بداود، وسليمان، ثم امتدت العلاقات لتشمل مجال التجارة؛ لذا، فقد عاد جيش الاحتلال للتمركز في محيط القبر، العام 1983، وتحويله إلى مقر عسكري، ثم إعداده لاستقبال البعثات الأثرية الصهيونية، وذلك مثال لممارسات الاحتلال في لبنان، وقد ذكر المؤلف غيرها. 

إن أي بلد، ذو حضارة قديمة، لم يفلت من محاولات ربط حضارته القديمة ببني إسرائيل، فاتجهت البعثات الأثرية للبحث عن "مملكة سبأ"، في اليمن، وعن "بابل"، في العراق، فضلاً عن نهب متحف بغداد، بالاستعانة بآلاف السجناء المدانين في قضايا جنائية، ليبدو المشهد أن العراقيين يسرقون تراثهم.

 

وعقب غزو العراق، قام فريق "ميت آلفا" بالبحث عن أسلحة الدمار الشامل، رافقه أعضاء من المؤتمر الوطني العراقي، وعند تفتيشهم مبنى المخابرات، بدأوا في البحث عن أقدم نسخة لـ"التلمود"، وعثروا على كتب دينية يهودية، منها نسخة من "التلمود"، مطبوعة في ليتوانيا، ترجع للقرن التاسع عشر، ولا يعلم أحد مصير ما عثروا عليه. فضلا عن ممارسات أخرى، في العراق، تناولها الفصل الخامس.

تحت عنوان "مغامرات تاريخية"، ناقش الحضري نماذج للمحاولات المتعاقبة لربط التاريخ القديم ببني إسرائيل، وعرض أطروحات فليكوفسكي، وأحمد عثمان. وإلى هنا انتهى القسم التوثيقي في الكتاب.

*****

المرجعية التاريخية

ركز المؤلف، في الفصل السابع، على "لعبة إعادة تشكيل التاريخ"، "فالعوالم الموغلة في القدم، تصبح دائمة الحضور بأذهان بعض من يُحاولون إعادة صياغة الحاضر، اعتمادًا على نص توراتي، لم يجد ما يوثَّقه، أثريًا".

 

وبدأ الكاتب بطرح سؤال قديم، ولكنه دائم الحضور: "إلى أي مدى يُمكن التعامل مع التوراة، باعتبارها مرجعًا تاريخيًا؟" واستعرض الحضري نماذج من التناقض في النص التوراتي، "فبينما يسير (سفر التثنية) إلى أن جذور بني إسرائيل ترجع إلى حضارة وافدة على فلسطين، فإن (سفر أخبار الأيام الأول) يتحدث عنهم، باعتبارهم سكان المنطقة الأصليين، وما ينطبق على الجذور، ينسحب على إسرائيل القديمة، ونشأتها"، فالنصان يقودان إلى نشأة مختلفة؛ ما أنتج مدرستين أثريتين، تحاولان تحديد نشأة إسرائيل القديمة، "الأولى: يقودها وليام أولبرايت.. وأكد أن النشأة حدثت في أعقاب غزو خارجي، قام به بنو إسرائيل على فلسطين؛ أما المدرسة الثانية، فهي للعالِم الألماني ألبرخت آلت، الذي رجح فكرة التسلل، أو الهجرة لبني إسرائيل". وقد واجه الفريقان الفشل في توفير الدليل الأثري على نظريتهما. ووصل الباحث، بعض عرضه لنماذج من التناقض في النص التوراتي، إلى نتيجة، مؤداها أن "التوراة لا تصلح، إطلاقًا، لأن تكون مرجعًا تاريخيًا. فالأحداث المتناقضة، وأخطاء التدوين، ثم الترجمة، أدَّت كلها إلى تشوُّش المعاني، والدلالات، كما أن ما نُسب إلى محرريها من انحيازات، يُشككن بدوره، في صحة الأحداث، إضافة إلى أن اهتمامهم الواضح بتاريخ بني إسرائيل، دون غيرهم، أدَّى إلى نزع الحدث -بفرض صحته- من سياقاته الزمانية، وبالتالي إسكات مقارنات مهمة، كان من الممكن أن تُسهم في التعرُّف عليه ضمن إطاره".

بين الوجود والحضارة

يتعرض الحضري هنا، إلى إشكالية التواجد اليهودي في حضارة من الحضارات، وكيف يُستغل هذا لتهويد تلك الحضارة، حتى أضحت "الفلافل" أكلة إسرائيلية، فضلاً عن بناء الأهرامات! إن "الوجود، والحضارة، كلمتان تُشكلان ملامح مغالطة تاريخية كبرى، إذا تم التعامل معهما، كعنصريْن متلازميْن، ففي الحالة اليهودية يصبح ربط الوجود بالحضارة، بمثابة وضع أُطر تنظيرية لعمليات السطو"، وراح الفصل ليُفنِّد هذا الزعم، بالتأكيد على أن تواجد اليهود في حضارة ما، لا يعني، بالضرورة، تأثيرهم فيها.

 

وفي هذا ذكر الحضري إشارة برستد إلى "أنه يمكن كتابة مجلد بأكمله، عن العناصر الثقافية الأجنبية، التي انتشرت في فلسطين، قبل أن يستوطنها العبرانيون، وظل أثرها يزداد، بعد ظهور الملكية العبرانية، في عالم الوجود". ثم تعرض المؤلف للوجود اليهودي في الحضارة المصرية، وحضارات أخرى، مثل بابل.

في الفصل الأخير، طرح الحضري مقولات "النقاء العرقي"، و"الديانة المغلقة"، وفيهما "تستقر ثقافة اغتصاب التاريخ، والجغرافيا، إذ تُكرسان لكون يهود الحاضر، امتدادًا حتميًا، لكيانات أخرى تاريخية"، وبهذا تنطلق الدعاوى الصهيونية: "على الشعب اليهودي أن يتجمع، مرة أخرى، في أرض خاصة به، والمكان المناسب لذلك، هو وطنه القديم (أرض إسرائيل)، التي تكوَّن فيها الشعب، وفيها تكونت ثقافته، ويُثبت حقه القومي في البلاد، عن طريق تمسُّكه بها، في صلواته، وفي عاداته، على امتداد الأجيال، منذ سُبي منها، بعد انتصار القوى التي غزته، وقمعته، وفيها، فقط، يستطيع التحوُّل إلى شعب طبيعي".

إننا أمام كتاب موسوعي، مليء بالمعلومات الموثقة، الجديدة على القارئ، المهتم بالقضايا العربية، وقد أحسن المؤلف، حين بسَّط ألفاظ الكتاب، ومصطلحاته، فجاءت المعلومات مسترسلة، بشكل منطقي، ومقبول، وجذاب، في نفس الوقت، غير أن إخراج الكتاب قد يحتاج إلى بعض التعديل، في الطبعات القادمة. والله من وراء القصد.


التعليقات (0)