مقالات مختارة

الحراك الشعبي والفعل السياسي في السودان

الشفيع خضر سعيد
1300x600
1300x600

إنه ذات الحقد والغل والتعطش للانتقام، ومن ذات كتائب الموت المجرمة المتخفية في زي القوات النظامية، التي تنفذ مخطط اقتناص وقتل شباب الثورة، منذ انتصار الثورة في مرحلتها الأولى، وبدءا بمجزرة فض الاعتصام في محيط قيادة الجيش السوداني في العام 2019، وليس انتهاء بحصد أرواح الشباب والصبية والأطفال، بالرصاص أو طعنا أو تهشيما للجماجم.


بالأمس، إبان حراك الثلاثين من حزيران/يونيو المنصرم، ولأنها متكررة، وخاصة بعد انقلاب الخامس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي، فهي جرائم قتل مكتملة الأركان، عمدا وبتخطيط مسبق، وليس تفلتا أو عدم انضباط أو لخطأ غير مقصود.


هي جرائم مباشرة، دافعها الأول الانتقام من شباب السودان الذي فجّر الثورة، وأذل وهزم «الكجر» و«كتائب الظل»، متسلحا بالسلمية وهتافات الحناجر.

ودافعها الثاني، والرئيسي، السعي المحموم لوأد الثورة وقتل الأمل في التغيير عبر سفك دماء الشباب المنهمك بهمة وجدية وحيوية في استكمال مهام الثورة، وفي التحضير لبناء سودان الغد الواعد. 

وبالنظر إلى موقع هذه الجرائم وميقاتها والمتهمين بارتكابها وضحاياها من شباب الثورة السودانية، فإنها بالفعل جرائم صادمة، لكنها أيضا جرائم جبانة، تناقض كل قصص الشجاعة وأغاني الفخر والحماسة عن بطولة وشهامة السوداني، ما دام الرصاص القاتل يُطلق غدرا وعلى ظهر الشهيد، وما دام القاتل وهو في زي القوات النظامية يركل جثامين الشهداء الطاهرة بالحذاء العسكري في شارع الستين في الخرطوم.

أما إذا كنا، والسياسيون منا بالأخص، نندهش ونتعجب لحدوث هذه الجرائم وكأنها غير متوقعة، فنحن فعلا غافلون ساهون ليس إلا! هي جرائم متوقعة تماما، مادام انتصار ثورة السودان لايزال حتى اللحظة جزئيا وغير مكتمل؛ لأنه توقف عند الإطاحة بالغطاء السياسي لنظام الإنقاذ، بينما جسد النظام باق ينخر في عظام الثورة، يتحين الفرصة لينقض ويشن هجوما مضادا ليحكم من جديد بقوة الدم المسفوح، وها قد أتته الفرصة إثر تداعيات انقلاب الخامس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 2021، مسنودا ومستقويا بحقيقة الإفلات من العقاب، وحقيقة أن الحديث عن لجان التحقيق حول هذه الانتهاكات والجرائم، هو مجرد لغو القول وباطله.

الحراك الشعبي وحده لن يحقق المراد ما لم يتبعه فعل سياسي ينطلق من مركز موحد، الحراك هو رافعه ومصدر قوته، ويكون جوهره هو إبعاد العسكر عن السلطة السياسية التي تتولاها كفاءات مدنية غير حزبية.


لقد أشرنا من قبل، وفي الأسابيع الأولى من عمر الثورة، إلى أن التحدي الرئيسي الذي تواجهه ثورة السودان، هو أن انتصارها ظل جزئيا وغير مكتمل ما دام توقف عند الإطاحة برأس سلطة تحالف الاستبداد والفساد، أو غطائها السياسي، بينما جسد هذا التحالف باق ينخر في عظام الثورة وينسج خيوط غطاء سياسي بديل، لينقض ويحكم من جديد. وقلنا إن هذا الغطاء السياسي البديل لن يهمه أن تدخل البلاد في نزاع دموي شرس، يكتسب الديمومة بفعل عدد من العوامل، منها أن تحالف الفساد والاستبداد من الصعب أن يبتلع ضياع ما راكمه من ثروات ضخمة خلال الثلاثة عقود الماضية.

وهي ثروات لم تُجن بكدح عرق الجبين أو بتدوير رأسمال متوارث، وإنما باستغلال يد السلطة في نهب موارد البلاد وأحلام مستقبل شبابها.

وبعد الثورة، لم تُمس هذه الثروات، وظل يجري استخدامها في التحضير الجدي للانقضاض، ولهذا السبب كان الفتك بلجنة إزالة التمكين. وفي ظل هذه الحقيقة، وحقيقة أن جرائم الإنقاذ البشعة، والجرائم إبان حراك الثورة وبعد الإطاحة بالحكومة الانتقالية، ظلت دون مساءلة أو عقاب، بينما مرتكبوها ظلوا قابعين في مواقع متنفذة، وفي ظل حقيقة وجود مجموعات مسلحة ضمن أجهزة السلطة الانتقالية، تدين بالولاء لتحالف الفساد والاستبداد، وعقيدتها القتالية الانتقام من الشعب ومن ثورته، كان منطقيا أن نتوقع انقضاض هذا التحالف على الثورة، وهو ما نشهده الآن بالفعل، وابتدأ بمذبحة فض الاعتصام وليس انتهاء بمذابح الأمس.

إن انتهاك القانون والإفلات من المحاسبة والعقاب، خاصة من قبل قوات حماية وإنفاذ القانون، هما من أولى ظواهر انهيار الدولة، ومن أولى العوامل المسببة له، وسنكون مشاركين في الجريمة إذا أغمضنا أعيننا عن هذه الانتهاكات للقانون.


بغروب شمس الثلاثين من حزيران/يونيو المنصرم، تبدت أو تأكدت مجموعة من الحقائق، أولها أن ثورتنا المجيدة لم تكن مجرد انتفاضة جياع، ولا ترتبط بأهداف سياسية بحتة وآنية، بقدر ما هي ثورة جيل اندفع ليحطم الجدار الذي سدت به الإنقاذ أفق بناء دولة السودان المدنية الديمقراطية، جيل لن توقفه كتائب الموت المتخفية في زي القوات النظامية، ولن يصمد أمامه أي أفق مسدود آخر، ولن يهدأ له بال حتى ينتصر، وسينتصر؛ فهو الجيل «الراكب رأس»..! وثاني الحقائق، أن الأولوية القصوى، إضافة إلى الحفاظ على جذوة حراك الشارع السلمي متقدة، هي العمل على وحدة قوى الثورة وتماسكها ودفع أي تناقضات بينها إلى الوراء، ونبذ ما تشهده من تراشق وخلافات وصلت حد التشكيك والتخوين، لم يكبحها الوضع المعقد لمسار الثورة الذي يتطلب تكاتف وتوحد الجميع أكثر من أي وقت آخر، ولم تعدها إلى رشدها نداءات أرواح الشهداء أن نحافظ على ما نصرته وروته بدمائها وأرواحها، وأن الخائن الحقيقي، هو من يصم أذنيه عن هذه النداءات وهو لا يدري، أو يدري ولا يهتم، أنه بهذا المسلك يفتح أوسع الأبواب لأعداء الثورة. 

وثالث الحقائق، أن الحراك الشعبي وحده لن يحقق المراد ما لم يتبعه فعل سياسي ينطلق من مركز موحد، الحراك هو رافعه ومصدر قوته، ويكون جوهره هو إبعاد العسكر عن السلطة السياسية التي تتولاها كفاءات مدنية غير حزبية.

صحيح أن السودان اليوم يمر بمنعطف خطير، مما يتطلب إعلاء صوت الحكمة مثلما يتطلب الانخراط في عملية سياسية تسع كل قوى الثورة. ولكن هذه العملية السياسية لا تعني التحلل من ثورة كانون الأول/دبسمبر والتعامل معها وكأنها كانت خطأ، مثلما لا يمكنها أن تمر مرور الكرام فوق جثث الشهداء وما ارتكب من جرائم.

 

القدس العربي

0
التعليقات (0)