مقالات مختارة

الأسرى يدقون جدران الخزان

رجب ابو سرية
1300x600
1300x600

ليس هنالك أسوأ من السياسيين الذين لا يقرؤون التاريخ جيدا، فتحتاج الشعوب لأن تذكرهم بدروسها بين فترة وأخرى، ومن هؤلاء السياسيين السيئين أولئك الذين ينظرون إلى ما بين أقدامهم، وحين تحتاج بلادهم لقرارات تاريخية يعجزون عن اتخاذها، وربما كان ضربا من ضروب المفارقة أن يتضمن النظام الديمقراطي عددا من أسوأ رجال الحكم، وذلك لأن من يصل إلى مقود القيادة في ذلك النظام يمر عبر صناديق الاقتراع؛ أي إنه لا يقيم وزنا لمستقبل بلاده من المنظور الاستراتيجي بقدر ما يخضع لسطوة الناخبين.  


نقول هذا الكلام ونحن نراقب عدونا الذي يبقى على كل حال هو الطرف الآخر الذي نخوض معه ثنائية الحرب والسلام حيث يمكن القول؛ إن إسرائيل بكل قياداتها التي سبق لها وقادتها طوال ثمانية عقود مضت، قد تراجعت عن عصر القادة إلى رجال الأعمال السياسيين، ولم يعد هناك من يقدم على اتخاذ القرار التاريخي الخاص بصنع السلام، بل إن إسرائيل رغم قوتها العسكرية ورغم التغطية السياسية الأمريكية التي تمنع العالم من نبذ إسرائيل، جراء ما ترتكبه من جرائم حرب ونتيجة اتباعها سياسة التمييز العنصري، فضلا عن احتلالها لأرض الغير، ما زالت فيما يخص أهم قرار يمكن أن تتخذه؛ وهو قرار السلام مع الجانب الفلسطيني، تنتظر المبادرة من الطرف الفلسطيني.  


ويبدو أنه في ظل عالم متغير، حتى أمريكا الحليف الرئيس لإسرائيل تفتقر لرئيس تاريخي، فبعد دونالد ترامب الذي بدا كرئيس أحمق لم ينجح حتى في البقاء لولاية ثانية في البيت الأبيض، ظهر جو بايدن خلال نصف ولايته الرئاسية كرئيس ضعيف بدرجة كبيرة، لم يظهر مثله في البيت الأبيض منذ ثمانينيات القرن الماضي، ورغم خبرة الرجل إلا أنه يظهر فشلا ذريعا فيما تصدى له من ملفات؛ إن كان الملف الإيراني، أو ملف الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، أو حتى الملف الروسي. ونسوق هنا دليلا واحدا فقط، وهو إعلانه عن فتح القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية المحتلة، لنؤكد أنه لم يقدر على تنفيذ وعده بسبب معارضة إسرائيل، وهو تجرأ على عكس ما كان يقول قبل وصوله للبيت الأبيض على التفكير في الترشح مرة ثانية، ويبدو أنه لن يكون أفضل حظا من ترامب، وذلك إذا ما خسر في محاولته الاحتفاظ بالمنصب للولاية الثانية، وهو ما لم يحدث لرئيس ديمقراطي منذ جيمي كارتر العام 1980.


القادة الإسرائيليون الذين يضطرون لاتباع سياسة تتوافق مع الناخبين الذين انزاحوا لجهة اليمين كثيرا خلال العقود الثلاثة الماضية، لا يقرؤون التاريخ جيدا، ولو أنهم فعلوا لأدركوا أن الشعب الفلسطيني يجترح المعجزات كل فترة وأخرى، وأنه عادة ما يأخذ وقته الذي يقارب العقدين عادة ليقوم بفعل من شأنه أن يقلب الطاولة على رأس الإسرائيليين، الذين لا يفهمون سوى لغة التقارير الأمنية وليس غير لغة القوة العسكرية، ولسنا هنا بحاجة لأن نعيد تلك الحلقات من الثورات الفلسطينية التي كانت تحدث تباعا بعد انسداد الأفق، وعجز القيادات على الجانبين عن التوصل لحل بغض النظر عن الأسباب والظروف الإقليمية والدولية، وآخر حلقات رد الفعل الفلسطيني كانت منذ عشرين سنة بعد أن تأكد انسداد الأفق أمام التزام إسرائيل بنص أوسلو، الذي حدد خمس سنوات منذ العام 1994 أي العام 1999 كآخر موعد لانتهاء المرحلة الانتقالية والتوصل للحل النهائي، فكانت الانتفاضة الثانية.

 

وحقيقة الأمر، أن زيارة بايدن للشرق الأوسط قبل بضعة أسابيع كانت صادمة؛ فهو  أوضح عجزه عن فعل شيء لدفع التفاوض أو حماية حل الدولتين من القضم الإسرائيلي المتواصل له، بما جعل تحقيقه أكثر صعوبة بما لا يقارن، هذا إن لم نقل إنه قد صار أمرا مستحيلا. وحيث إن القادة الإسرائيليين يواجهون نظاما غير مستقر، يجدون أنفسهم طوال الوقت أمام صناديق الاقتراع، لذا؛ فإنهم لا يظهرون عمليا كأكثر من رجال أعمال يشتغلون في الحقل السياسي أو مقاولي أصوات انتخابية، وهذا يبعدهم تماما عن دائرة القرار التاريخي الذي يتطلبه صنع السلام أكثر مما يحتاجه قرار إعلان الحرب.  

 

الشعب الفلسطيني تعلم من كفاحه جيدا، وأهم درس تعلمه هو أن يصنع تاريخه بنفسه، بل أنه يعرف أن زمام المبادرة يبقى بيده، فهو الذي يرفع أو يخفف من حدة ووتيرة الصراع، فحتى رغم كل ما يبدو اليوم من جبروت إسرائيلي، إلا أن الشباب الفلسطيني المقاوم في جنين ونابلس يكاد يشكل رادعا للاحتلال، بل يبث في أوصال قادة الاحتلال الخوف، لذا فهم منهمكون في ملاحقة الشباب ليل نهار. والتاريخ الحديث يقول لنا؛ إن الانتفاضة الأولى قدمت قادة الشعب الفلسطيني الجدد من ساحات المطاردة ومن ساحات السجون والاعتقال.  

 

لا نبالغ لو قلنا؛ إن السنوات القليلة الماضية لم تهدأ خلالها الساحة الفلسطينية، وإذا كان الاحتلال ومستوطنوه لم يتوقفوا لحظة عن ممارسة العنف والقهر اليومي للشعب الفلسطيني، فإن شعبنا لم يتوقف بدوره عن المقاومة لحظة واحدة، ولأن معادلة الاحتلال والمقاومة إنما هي معادلة واحدة تتضمن الشيء ونقيضه، فإن الشعب الفلسطيني يجترح المعجزات في اللحظات القاسية، وقد وقف شعبنا ندا للاحتلال رغم أنه ليس في أحسن حالاته؛ في ظل انقسام داخلي وفي ظل وضع عربي سيئ يسارع فيه النظام الرسمي للتطبيع مع العدو، دون حتى منطق المقايضة السياسية التي كان يقول بها وهي المبادرة العربية، وفي ظل نظام عالمي ما بعد الحرب الباردة، قادته أمريكا راعية إسرائيل وعراب احتلالها وحامي جبروتها أو تفوقها العسكري على كل دول الشرق الأوسط.  

 

دروس التاريخ الفلسطيني الحديث أيضا تقول؛ إن الشعب يجمع على ثوابت عديدة، منها: الأقصى الشريف، ومنها الأسرى. وفي ظل انسداد أفق عملية التبادل أو في ظل إصرار إسرائيل على عدم القيام بعملية التبادل، يجد الأسرى أنه لا مناص أمامهم من تحرير أنفسهم بأنفسهم، وهم من يجمع الساحات ويضع حدا للانقسام. ولأن الاحتلال يقاد حاليا من رعاع سياسي، فإنه أطلق العنان لتوسيع دائرة الأسر لتشمل العاملين في حقل الدفاع عن حقوق الإنسان، ولأن الثورة عادة ما تندلع بعد تراكم كمي، فإن الاستبداد الاحتلالي تجاه خليل عواودة والتطاول على المنطق باعتقال بسام السعدي والحكم على محمد الحلبي دون أي سند قانوني، كل ذلك يعتبر صبا للزيت على نار القهر التي تعتمل في صدور وعقول كل الشعب الفلسطيني، حتى إذا ما دق ألف أسير جدار الخزان الاحتلالي، سارعت الملايين للاستجابة في ثورة شعبية عارمة ستقع اليوم أو غدا؛ لأنه لا بد من تحرر الشعب الفلسطيني من الاحتلال الإسرائيلي، الذي ما زال يفتقد قائدا تاريخيا يجنبه ما هو أسوأ من إنهاء الاحتلال.

 

(الأيام الفلسطينية)

0
التعليقات (0)