مقالات مختارة

الحرب الأهلية الميتافيزيقية الإيرانية

وسام سعادة
1300x600
1300x600

تقود نساء إيران في هذه الأيام أعتى مواجهة مع النظام الثيوقراطي ـ الحرسي، على خلفية مقتل الشابة مهسا أميني من بعد تعذيبها على يد شرطة مكافحة الحريات العامة والخاصة.
ويظهر بشكل أوضح من ذي قبل، أن نظام «الثورة الإسلامية»، وإن كان لا يزال يستند إلى قاعدة شعبية مساندة له، إلا أن قسما واسعا أيضا من المجتمع مصمّم أنى استطاع ذلك على التمرّد بأي وسيلة في وجه «مسلّمات» الأيديولوجيا الخمينية.
في مواجهة المارتيرولوجيا التي يستند إليها هذا النظام، أي توظيفه تركة شهداء الثورة الإيرانية ثم الحرب الإيرانية العراقية، وصولا إلى من قضى خارج الحدود كحال قاسم سليماني، للإيحاء حيثما وجد حاجة إلى ذلك، بأنه نظام قابل وقادر على تجديد بدايات الثورة الإسلامية عند كل منعطف، وإعادة ترطيب الجذور، تنبري «مارتيرولوجيا بديلة»، هي تركة الشهداء الذين سقطوا ويسقطون على يد النظام منذ الثمانينيات وإلى اليوم، شهداء وشهيدات الحرية.


الصراع الأبرز في إيران لم يعد منذ سنوات طويلة يتأرجح بين «إصلاحيين» و«محافظين»، بل تعمّق كصراع بين سرديتين مارتيرولوجيتين، واحدة إسكاتولوجية، يتبع فيها الدنيوي للأخروي، والثانية دنيوية على نحو يزداد تجذرا، مع بقائها في الوقت نفسه ملحمية بامتياز.
الصراع بين أهورا مازدا وأهريمن في الميثولوجيا الدينية الإيرانية القديمة يسري في صراع اليوم. ولكلّ تحديد موقعه وتزيينه بالمحاكاة الميثولوجية على هواه، إن كان هو في جهة أهورا مازدا أو أهريمن، في جيش النور أو في معسكر الظلمة.
ومن «الطبيعي» أن يقدّم كل طرف نفسه على أنه الخير في مواجهة الشر. تبقى المسألة في تصنيف الحرية، أخيرٌ هي، أو شرّ.


في تصنيف النظام الثيوقراطي، كل اعتبار دنيوي متفلت من الالتحاق باعتبار أخروي هو شرّ. وفي تصنيف من يتحدّى هذا النظام، الخير والحرية يترادفان. ليس ثمة انقسام بهذا العمق الميتافيزيقي اليوم كما هو الانقسام بين النظام الإيراني والمتمردين عليه. تصوران مختلفان تماما عن العالم، وعن العلاقة بين «يومنا هذا» و«اليوم الأخير». تصوران لا قابلية للوصل بينهما بأي شكل، وإلى أبعد حد. تصور يرى العالم وهما ينبغي تبديده لبلوغ الحقيقة، وتصور سئم هذا القلب العدمي للكلمات والأشياء.
يحدث هذا الشقاق الجذري في بلد يرتكز نظامه إلى طبيعة مركبة ودهاليزية، صلبة من ناحية ومراوغة بامتياز من ناحية مقابلة.
فهو نظام ثيوقراطي، من جهة التزامه بنظرية ولاية الفقيه المطلقة الشرائط وحل معضلة السلطة في زمن الغيبة الكبرى، من خلال دمج الإمام الخميني بين ولاية الفقيه وقيادة ثورة إسلامية تعرّف عن نفسها كثورة مستدامة.
ففي مقابل سؤال «متى إنهاء الثورة» الذي لم تستطع الثورات الفرنسية والروسية والصينية إلا طرحه، بأشكال ومآلات مختلفة للغاية، كان الجواب استباقيا في التصور الخميني: الثورة الإسلامية مستمرة حتى ظهور المهدي.
عليه، من يعتنق هذا التصور يخلص منه بأن النظام الخمينوي هو أيضا وجد ليستمر حتى ظهور صاحب الزمان، وكل من يواجه هذا النظام من خارج الآليات الاستيعابية للمشاركة والمشورة التي يقدمها ويشذبها إنما يحاول تأخير علامات الظهور.


والخمينية هي بالأساس محاولة لتكريس «الانتظار»، انتظار المهدي كفلسفة حياة تامة، وكفلسفة سياسية تامة، بحيث يتصدى العقل الانتظاري لكل من التعجيليين بالظهور من ناحية (على منوال الحجتية، ولهؤلاء أثر على محمود أحمدي نجاد) والمتسببين بتأخيره من ناحية ثانية، إن هم سعوا لإسقاط النظام.
ولأجل ذلك، لمنع تآمر المتسببين بتأخير الظهور كما لترشيد الغلو المنادي بالتعجيل، كما لو كان الناس من يقررون ذلك، وليست هذه من صلاحياتهم، فهو نظام له سمة عسكرية – مليشياوية، بما أن «الحرس الثوري» يهيمن عليه لحراسة «الانتظار» كفلسفة حياة وكنظام سياسي. وهو عمليا نظام الحرس أكثر منه نظام رجال الدين، بخلاف المقولة التشهيرية به: «نظام الملالي».
كما أنه نظام قائم على الوصل المتحرك بين الحاكمية الإلهية (إذا ما انتزعنا المفهوم من أبي الأعلى المودودي وسيد قطب)، وبين المصدر الشعبي للشرعية من خلال الديمقراطية الانتخابية التي لا يمكن وصفها في إيران بأنها مجرد ديكور، وإن كانت تخضع لزاما لوصاية الولي الفقيه. وقد ظهرت هذه الديمقراطية الانتخابية على جانب كبير من الهشاشة، أمام القزلباش الجدد، أي «الحرس الثوري»، في مرحلة أفول «الخاتمية»، وضرب «الثورة الخضراء» لعام 2009.

إلا أنه، ولو تمكن نظام «الحرس البريتوري» من إخماد انتفاضة الخبز تارة، والإجهاز على الغضب المندّد بتزوير الانتخابات تارة، وتقويض الحركات المنادية بالحقوق القومية – الإثنية والإقليمية هنا أو هناك، ومحاصرة انتفاضة شعبية ذات عمق نسوي ملحمي الآن، إلا أن النظام يستنزف ما في رصيده التاريخي من طاقة ومن معاندة بوجه الزمان، جولة في إثر جولة، ولو زيّن أربابه لأنفسهم أنهم يكتسبون «لياقة قمعية تقنية» عالية الجودة في مواجهة الحركات الشعبية من بعد كل «تمرين» من هذا الصنف.
يستفيد النظام إلى حد كبير من الصعوبة العملية لجمع كل عناوين التصدي له ضمن مشروع وطني ديموقراطي، قادر على إدخال إيران إلى طور جديد من تاريخها، أكثر تصالحا مع تاريخها الحضاري الممتد، لكن هذه الاستفادة تغدو أصعب بعد كل جولة، وتحديدا لأنه ثمة، من وراء العناوين المختلفة للكباش أو للمواجهة مع هذا النظام، تصوران مختلفان تماما عن العالم. إما أن هذا العالم مجرد حجاب لحقيقة لا تقيم فيه، وإما أن هذا العالم هو «المطرح» الذي نحن فيه، وقد عُهِدنا به وهو في عهدتنا.


في تاريخ الثورات الكبرى، جاءت الثورة الإيرانية عام 1979 بمعضلة؛ فالتوجه الإسلامي هيمن عليها سريعا، ثم ساد الضبط الخميني لهذا التوجه في قالب نظري وتوجيهي محدّد، مبني على إدغام مدهش بين صورة «الولي الفقيه» وصورة «الفقيه الملك»، هذا من جهة، وبين «الفقيه الملك» و«الملك الفيلسوف» من جهة ثانية، هذا إن لم نرد التوسع بالتفكير بالوظائف المسندة إلى «الحرس» كما يسميهم أفلاطون في «الجمهورية» (بوليتيا) وبين حرس الثورة. فعند أفلاطون لا تستقيم مرجعية الملك الفيلسوف على المدينة إلا بهمة الحراس، وعنده أيضا أن تنشئة الحراس ينبغي أن تزودهم بالقدرة على أن يكونوا طيبين بعضهم مع بعض ومع أصدقائهم، وأشرارا جلفين مع أعداء الملك العادل.


قطعا لا يمكن تحميل أفلاطون وزر النظام المنبثق عن ثورة 79 الإيرانية، لكن القالب الأفلاطوني مستعاد في خطوطه العامة في الأيديولوجيا الخمينية، وتحديدا فيما يتصل بربط الولي الفقيه بالمؤسسة الحرسية. يبقى أن «مدينة الخميني» هي ثورة دائمة من أجل انتظار ظهور المهدي. وهذه ما كانت لتخطر لأفلاطون. أفلاطون لم يكن ينتظر أحدا. حتى مدينته المثالية لم يكن ينتظرها.
بربط المشروع الأفلاطوني بفعل الانتظار، ستضفي الخمينية لونا غير معهود كثيرا على الأيديولوجيا المسيطرة بعد الثورة، التي تقدم نفسها كأيديولوجيا ثورية، بل لثورة دائمة باقية طالما بقيت غيبة الإمام.
فهذه الأيديولوجيا تتهم أعداءها من أنصار الشاه بأنهم «رجعيون»، وتتهم أعداءها على اليسار بأنهم «تقدميون». ليس مألوفا الاتهام المزدوج ضد هذا بدعوى أنه تقدمي، وضد ذاك بدعوى أنه رجعي. ثورية الثورة الخمينية، التي هي جزء من معين الثورة المضادة لأفكار عصر التنوير في النهاية، تكمن هنا. في منطق اشتغالها الداخلي بأنها «أنتِ رجعية» وبأنها «أنتِ تقدمية» في آن، بأنها ثورة انتظارية ودائمة في آن. بأنها واقعية مراوغة، إنما لإخضاع الدنيا للغيب، والخوف على الغيب من انفلات الدنيا منه.
مواجهة وتفكيك هذا النوع من التصورات ليس بالأمر السهل. التصور الآخر لا يسعه إلا أن يكون نقيضا كليا، والنقيض الكلي هو القادر على وصف تعقيدات تصور غريمه، ثم على التكشيف على الأساس الذي تقوم عليه هذه التصورات، وهو العدم.
وفي جانب منها هذه هي المعركة في إيران، اليوم أو بعد سنة أو عشر سنوات أو خمسين، معركة بين من يرى أن عالمنا هذا هو مجرد غشاء يخفي الحقيقة الفعلية، وأن حقيقة أي شيء في دنيانا مرهونة بمطابقته مع سرّه الغائب والأبدي، وبين من يرى أن الخوف من العالم هو عينه الخوف من العدم، وأن الخوف من العدم هو محاولة النطق باسم العدم نفسه، لأجل إخافة الأنام ودوام إخضاعهم.
في إيران ثورة تقودها النساء الآن ضد العدم، ولو تقطعت بها السبل، أو عادت فتفتحت أمامها الدروب. إنها حرب أهلية ميتافيزيقية بامتياز. كانت طويلة، والأرجح أنها ستبقى كذلك، معركة طويلة حتى انقطاع النفس.

 

(القدس العربي)

0
التعليقات (0)