قضايا وآراء

القارة السمراء.. عروس القمتين الأمريكية والصينية

أميرة أبو الفتوح
تهدف القمة الأمريكية الأفريقية لمواجهة النفوذ الصيني- جيتي
تهدف القمة الأمريكية الأفريقية لمواجهة النفوذ الصيني- جيتي
يشهد العالم اليوم سباقا أو تنافسا أو صراعا، سمّه كما تشاء، بين القوى العظمى في العالم؛ الولايات المتحدة الأمريكية التي تربعت على عرش زعامة العالم بمفردها، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي لأكثر من ثلاثة عقود من الزمان، وبين الصين الشعبية، القوة العظمى الصاعدة اقتصادياً أولاً وعسكرياً لاحقاً.. على الزعامة والسيطرة عالمياً. فالولايات المتحدة تريد الاحتفاظ بموقعها كقطب أوحد في العالم واستمراره بلا نهاية، والصين تريد أن تنتزع هذا اللقب منها، أو على أقل تقدير أن تشاركها فيه إلى حين أن تتمكن من إزاحتها تماماً والانفراد بالزعامة..

ولا بد لهذا الصراع من وقود يساعده على الانتصار، ومخزن هذا الوقود موجود لدى العالم العربي وخاصة دول الخليج، والقارة الأفريقية، ولذلك وجدنا القمة الأمريكية الخليجية العربية في السعودية منذ ما يقرب من الشهرين ثم أعقبتها القمة الصينية الخليجية العربية التي عقدت في السعودية أيضا، فردت الولايات المتحدة سريعاً بعقد قمة كبري مع الدول الأفريقية في واشنطن بحضور نحو خمسين من قادة دول القارة الأفريقية..
وجدنا القمة الأمريكية الخليجية العربية في السعودية منذ ما يقرب من الشهرين ثم أعقبتها القمة الصينية الخليجية العربية التي عقدت في السعودية أيضا، فردت الولايات المتحدة سريعاً بعقد قمة كبري مع الدول الأفريقية في واشنطن بحضور نحو خمسين من قادة دول القارة الأفريقية

ليست هذه القمة الأمريكية الأفريقية هي الأولى بين أمريكا والدول الأفريقية، بل سبقتها قمة كبرى أخرى في عهد الرئيس "باراك أوباما" عام 2014، حيث دعا كل زعماء الدول الأفريقية في الاتحاد الأفريقي لقمة في واشنطن، بعد إعلان الرئيس الصيني "شي جين بينغ" عام 2013 عن طريق الحرير الجديد الممتد من حدود الصين وسط آسيا، مروراً بالخليج العربي والشرق الأوسط وحتى القارة الأفريقية وحدودها البحرية مع أوروبا، وهي ما سميت مبادرة "الحزام والطريق"..

لا شك أن الصين بدبلوماسيتها الناعمة استطاعت إغراء الدول في منطقة "الحزام والطريق"، من وسط آسيا والخليج وأفريقيا والذي ضم أكثر من 60 دولة، وأغرقتها بمنتجاتها وبضائعها وأبرمت معها الكثير من الصفقات والعديد من الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية، ما مكنها من إقامة الكثير من المشروعات المهمة في بلدانهم الفقيرة وخاصة في مجال البنية التحتية، وقدمت لهم العديد من القروض الميسرة، دون النظر لنظام الحكم في هذه الدول التي يغلب عليها الطابع الفاشي. فلا كلام هنا عن الديمقراطية ولا الحريات ولا حقوق الإنسان؛ إلى آخره من هذا الكلام الذي يصدع رؤوس الحكام الديكتاتوريين في هذه المنطقة، كما تفعل الولايات المتحدة، فهذه الدول غير الديمقراطية تشبهها تماماً، تجمع بينها الديكتاتورية والاستبداد وقهر شعوبها، فلا مزايدات حزبية وليس لديها برلمانات تحاسب ولا صحف حرة تكشف فسادها أو ما شابه ذلك؛ سواء كان عند صانع القرار الصيني أو عند  هؤلاء الحكام الطغاة في المنطقة..
تحرص بكين على أن تؤكد دائماً أنها شريك استراتيجي وصديق مخلص، وهي لا تتدخل في السياسات التي تتبعها الحكومات الأفريقية، وبالتالي لا مجال لتدخل أي طرف منهما في كيفية تعامل الآخر مع محكوميه

تحرص بكين على أن تؤكد دائماً أنها شريك استراتيجي وصديق مخلص، وهي لا تتدخل في السياسات التي تتبعها الحكومات الأفريقية، وبالتالي لا مجال لتدخل أي طرف منهما في كيفية تعامل الآخر مع محكوميه، لذلك لم تدن الصين مقتل الصحفي السعودي "جمال خاشقجي" على يد النظام السعودي، على سبيل المثال، ولم تنبس ببنت شفة عن آلاف المعتقلين السياسيين في تلك الدول، فلديها عشرات الآلاف مثلهم يلاقون أشد أنواع العذاب.

وفي المقابل تم رد التحية لها بأحسن منها، فلم يدن بلد الحرمين الشريفين، الذي يسعى لزعامة العالم الإسلامي والمفترض أن يكون الحامي أو المدافع عن المسلمين، المجازر الوحشية وعمليات الإبادة الجماعية التي ترتكبها السلطات الصينية المجرمة ضد المسلمين الإيغور، بل إن السعودية كانت ضمن 37 دولة توجهت برسالة إلى الأمم المتحدة تدعم فيها بكين وتهنئها على إنجازاتها اللافتة على صعيد حقوق الإنسان!!

ووفق هذه المعادلة الانتهازية اللا أخلاقية كان من الطبيعي أن يغيب ملف المسلمين في الإيغور عن نقاشات القمتين الخليجية الصينية والعربية الصينية، بينما لم تغب تايوان عن بيانهم الختامي وأنها أرض صينية وجزء من دولة الصين الشعبية!
وجدت الصين في هذه الدول بيئة خصبة وساحة لبسط نفوذها وامتداده إلى بقية العالم، فضخّت عشرات المليارات من الدولارات في مشاريع الطاقة الأفريقية والبنية التحتية ومشاريع أخرى تعزز من مصالحها الجيوسياسية والتجارية، وقد أدركت أمريكا ذلك مؤخراً واعتبرته تحديا للنظام الدولي القائم

لقد وجدت الصين في هذه الدول بيئة خصبة وساحة لبسط نفوذها وامتداده إلى بقية العالم، فضخّت عشرات المليارات من الدولارات في مشاريع الطاقة الأفريقية والبنية التحتية ومشاريع أخرى تعزز من مصالحها الجيوسياسية والتجارية، وقد أدركت أمريكا ذلك مؤخراً واعتبرته تحديا للنظام الدولي القائم على القواعد، وتقويض الشفافية والانفتاح، وإضعاف علاقات الولايات المتحدة مع الدول الأفريقية!

لقد غابت أمريكا عن القارة السمراء زمناً طويلاً وهي واهمة أن مفاتيح خزائنها الممتلئة بكنوز الأرض وموارده الثمينة في قبضة يدها، وهي الوحيدة التي تملك فتحها حينما تريد. ولقد استقر الرأي لدى الإدارات الأمريكية المتعاقبة على تأجيل تلك الخطوة أملاً في ادخارها لأجيال أمريكية قادمة، ولكنها فوجئت بالصين وروسيا، خصميها اللدودين، تسرقان المفتاح منها، فما كان منها إلا السعي لاسترداده وعودة القارة السمراء إلى الفلك الأمريكي، فلجأ "جو بايدن"، إلى سياسة براجماتية لجذب الأفارقة إلى أمريكا من جديد، واحتوائهم في الحضن الأمريكي ومحاولة لرأب الصدع وترميم العلاقات مع الدول الأفريقية بعد أن خربها سلفه "دونالد ترامب" بنظرته الاستعلائية العنصرية للأفارقة والتحقير من شأنهم، ووصف أفريقيا بأكملها ببلاعة قذورات (shithole)، ففعل بايدن ما فعله "باراك أوباما"، وكان نائبه في تلك الفترة، فغض الطرف عن شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان التي يرفعها الجناح التقدمي بين الناخبين، وأمعن النظر في المصلحة فقط وألا تترك أفريقيا لقمة سائغة في فم الصيني والروسي والأمريكي يقف متفرجاً!

قبل بدء القمة، وعدت إدارة بايدن القارة السمراء بمعونات ومنح بخمسة وخمسين مليار دولار موزعة على مدى ثلاثة أعوام قادمة. وركزت القمة على أربع قضايا أساسية الطاقة والالتزام بالأمن الغذائي وتشجيع الزراعة، أي دعم الزراعات ومواجهة تهديدات التغير المناخي ودعم وتحسين الاقتصادي الرقمي والاستثمار في مجال الاتصالات..

وكما نرى فإن هذا العرض الأمريكي جاء هزيلاً لا يليق بدولة عظمى بحجم أمريكا، وليس كما ظن الكثيرون من إغراءات أمريكية هائلة للأفارقة تسحب البساط من تحت قدمي الصين وروسيا، وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أن التغيرات في السياسة الأمريكية تجاه أفريقيا ليس كبيراً، فلا تزال تحكمها نفس المعايير التي كانت لدى الإدارات الأمريكية السابقة. ولعل ما قاله الرئيس "جو بايدن" في ختام كلمته في القمة يفسر لنا ذلك، فقد أكد أن هدفه منها "ليس خلق التزامات سياسية وإنما الهدف حفز النجاحات"..

وإذا قارنا ما قدمته أمريكا للقارة الأفريقية بما قدمته الصين لها، تجد فرقاً مذهلاً، يكفي أن تعرف أن الميزانية التي رصدتها الصين حتى عام 2027، من مشروعات لطرق وموانئ لطريق الحرير الجديد لتوصيل بضائعها إلى أوروبا، واستثمار المواد الخام لتكنولوجيا المواصلات والاتصالات في أفريقيا، تصل إلى نحو تريليون وربع التريليون دولار..

لكن الفارق أن الولايات المتحدة ستقدم مساعدات ومنحا اقتصادية، وليست قروضاً "ميسّرة" مثل ما قدمته الصين وأغرت، أو بمعنى أدق ضحكت بها على الدول الأفريقية مما شكل عبئا مالياً جسيماً على ميزانيتها..

لقد لعبت أمريكا بورقة مساندة طلب الاتحاد الأفريقي للعضوية الدائمة بمجموعة العشرين، أسوة بالاتحاد الأوروبي، وهو حلم أفريقي طال انتظاره، وهي تضم بالفعل دولة جنوب أفريقيا. كما وعدت بالوساطة لدى البنك الدولي لتخفيض ديونهم وإعادة جدولتها أو ربما إسقاطها نهائيا إذا استقام الأمر، ولكن يبقى كل هذا في خانة الوعود البراقة ليس أكثر، وكما يقول المثل: "كلام الليل مدهون بزبدة يطلع عليه النهار يسيح"..
هل ما قدمته الولايات المتحدة للقارة السمراء كفيل بأن تفك ارتباطها بالصين وروسيا، وخاصة أن أغلب الدول الأفريقية لا تثق في التعهدات الأمريكية، وأن تجربة ثماني سنوات أعقبت ولاية باراك أوباما لم تسفر عن أي نتائج إيجابية تجاه الأفارقة، ولم تحقق أي دينامية دبلوماسية ملحوظة تحقق تراكماً في هذا المسار؟

تدرك الولايات المتحدة ان أفريقيا ستلعب دوراً حاسماً في التحديات العالمية المقبلة، لذلك فهي تريد استقطابها إلى صفها ومنع الصين وروسيا من الانفراد بها، ولكن يبقى السؤال الأهم: هل ما قدمته الولايات المتحدة للقارة السمراء كفيل بأن تفك ارتباطها بالصين وروسيا، وخاصة أن أغلب الدول الأفريقية لا تثق في التعهدات الأمريكية، وأن تجربة ثماني سنوات أعقبت ولاية باراك أوباما لم تسفر عن أي نتائج إيجابية تجاه الأفارقة، ولم تحقق أي دينامية دبلوماسية ملحوظة تحقق تراكماً في هذا المسار؟..

وهكذا أصبحت القارة السمراء بين ليلة وضحاها عروس العالم المدللة، يتقرب إليها شرقه وغربه بالنوافل يريدون ودها لأخذها في معسكره، فمن ستختار ومن سيقع عليه الحظ أمريكا أم الصين، أم سترتكب الخطيئة الكبرى وتجمع بين الاثنين؟! هذا ما ستظهره لنا الأيام القادمة..

twitter.com/amiraaboelfeto
التعليقات (0)