الفراعنة والمتفرعنون، أناس قد تعجبك شعاراتهم وكلامهم، بيد
أنهم إن تمكّنوا أفسدوا وأهلكوا الحرث والنسل، أقصوا الجميع ولا يتعاونون في البناء
بأكثر من الكلام المبهرج. ولقد رأينا في واقعنا رؤية العين، من أجل هذا سنتحدث عن
النفس
الفرعونية في المستضعفين الذين إن تمكنوا تفرعنوا وما انفكوا متذمرين يرفعون
الشعارات ويحطون الفعل.
"أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن
بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ
فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ
تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ
أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ
تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ" (البقرة:
246).
* حالة التذمر، بل طلب
التغيير بصوت عال وكأنهم في أفضل حالات
الجهوزية للصلاح، فما بالهم يبقون تحت واقع لا يريدونه ويرونه نموذج للفساد؟!
*
يريدون قيادة معززة للبدء بالتغيير.
*
أمتأكدون أنكم مؤمنون بما تقولون وتدعون؟
*
الجواب نعم، كيف نرى هذا الظلم والتردي ولا نغيره؟
من
الفساد في الأرض عند التمكين إلى الإثارة والكلام والشعارات
في مجتمعهم وهم غير متمكنين.. لماذا لا نفعل كذا وكذا، أنت أيها المصلح لماذا لا
تقودنا لهذا الأمر وذاك؟ أتفعلون هذا حقا؟ الجواب الجاهز نحن لها؛ بل يشخّصون مواطن
الضعف والنقاط الواجبة
الإصلاح وما ينبغي أن يكون، ولكن وفق ما يشتهون وليس وفق الممكن
والمتاح، ويسبق كلامهم (المفروض)..
وعندما يتطلب منهم المواقف وتصبح الأمور جدية تطلب من الداعين
بصوت عالٍ التضحية، يتحجج الكثرة وأتباع المصالح ومن يريدون الزعامة والسلطة، وكانوا يتوقعون أنهم هم من سيختارهم النبي، فهم أصحاب النفوذ والمال والمكانة
الاجتماعية. فكيف يختار لهم قائدا فقيرا لا عزوة له أو شخص يطلب منهم الاجتماع عليه؟
هكذا فعل بنو إسرائيل وهكذا نفعل نحن، فالناس سيتوجهون إلى عيوب المصلحين لا يهمهم
المنطق ولا البرهان، بل تجدهم أول من يبتعد عن مسيرة الإصلاح، ويبقى مع المصلحين
بعض المتأثرين بضرورة الإصلاح بمراحل متعددة من الإيمان، فيتساقطون في الاختبار.
والاختبارات أشار لها القرآن رمزا، والرموز تمثل الحاجة إلى الأشياء
والضروريات، وغيرها مما يمكن الصبر عليه والاستغناء عنه، أو الاكتفاء بقدر الحاجة إليه،
أُعد الناس وتكونت الأحزاب ونُظر لمن طال نضاله عند المناضلين، ومن ظهرت علامة
السجود عليه عند المؤمنين، ومن تحمّل الجوع وما زالت عليه علامات السجن والغربة
عند العاملين، لكن هل هؤلاء هم الصالحون؟
1-
مع بداية المسيرة يأتي الجاه والمنصب، فمنهم من يغادر مسيرة طالوت إلى الجاه
والمنصب حتى لو كان جالوت. وهنا تنتصر غريزة حب السيادة على ما طلب من مواجهة
لجالوت.
2-
تبدأ خطورة العمل والمواجهة للظروف القاسية وحرارة الواقع وجفاف وشظف العيش،
فسيتوجه القسم الآخر إلى البيوت حيث الظل والأكل وبئر الماء. وهنا تسيطر غريزة حب
البقاء على قيم تتطلب التضحية والعطاء، واحتمال فقدان النفس والمال في سبيل الإصلاح.
3-
سيجد البعض أن المال أمامه سائب بيديه وهو من يقرر أمره، فيستطيب الأمر وتنهض
غريزة حب التملك لتقضي على الأمانة لديه، فتحتضر القيم والمبادئ أمام الشهوات
والرغبات.
4-
ثم تأتي موازنة الحاجات التي أشار لها القرآن بالنهر، نعم أمامك نهر جار تخوض به،
لكنه ممنوع عنك أن تفعل به ما تشاء، اللهم إلا إن اضطرت لكي تبقى على قيد الحياة،
فلا بأس أن تغرف بيدك غرفة لتستمر.
ثلاثة نماذج لا ينبغي بقاؤهم كمتصدرين للإصلاح؛ لأنهم عناصر
تثبيط ومشاريع فساد، والمداراة عليهم هي من معالم الفشل وتشييد صروح الفساد، هكذا
قالت آيات سورة البقرة 246-248.
المثالية ليست حالة متوقعة:
النموذج القرآني يقول؛ إن هنالك ثلة ستجتاز كل هذا الامتحان
مخلصة مضحية معطاءة، لكن عندما تأتي للمواجهة والشر، ستواجه هذه الثلة المؤمنة
المصفاة من بينها من يثبطها. إن الفساد طاغ قاهر متجبر لا يمكن القضاء عليه أو
مواجهته، والأفضل أن نسكت عليه، وأن نساومه، اسرق لكن ابنِ قليلا، لا تأكل كل
الحقوق، لا تهرب بكل المال، لا تفسد كثيرا في الأرض، وإنما دع متنفسا للناس كيلا ينفجروا من شدة الظلم والفساد، ويبقى آخرون يصرّون على الإصلاح.
إن من سيواجه الفساد والظلم ليس من أصر على المطاولة، ولا من أصابه
الإحباط من هول ما يرى، وإنما المنقذ من لا ينظر إليه أصلا؛ فتى صغير مثّله
النموذج القرآني لا يحمل سيفا ولا صولجانا، وإنما الشباب الواعي الواثق بنفسه
المتسلح بإيمان حقيقي والعلم والأناة، يعلم ما يريد ومتى يتحرك، هكذا كان داوود عليه
السلام من نفض مقلاعه لينهي الجدل وتستقر الأمور.
إننا لن نواجه الفراعنة إلا بموسى وهارون، ولن نواجه جالوت إلا
بداوود، وليس بالفرعون الذي داخلنا ولا بجالوت الذي يظهر فينا؛ إن تمكنا فحكم
الفراعنة وجالوت هو هيمنة الظلم والفساد؛ لا بد أن نطرده من داخلنا وننقي أنفسنا
من جالوت وفرعون لكي نسير مسيرة موسى ونحسم ظلم واستبداد جالوت، فلن يواجه فرعون
فرعونا إلا ليكون محله، ولن يواجه جالوت جالوتا إلا ليكون باستبداده.
ولا بد أن نتأكد أننا نعبر النهر ولا نشرب، وأن نقول إن الصبر
مفتاح الفرج والصبر ليس الاستكانة، وإنما الصمود على الحق وطلب العدل، فليست النفوس
تحب المواجهة رغبة، وإنما دوما اضطرار عن خير الناس "وتودون أن غير ذات الشوكة
تكون لكم"، وفي كل الحالات وكل الأزمان يصرح القرآن بحقيقة أن الله يدفع
الظلم بالحق وليس بظلم مثله، وإن حصل فهو امتداد للظلم وصراع بين الفراعة وجالوت
وشبيهه؛ لأن الحفاظ على حق الاختيار بالعقيدة وسلامة الضروريات، هي بوجود المؤمنين
الذين لا يسقطون بالاختبار: "وَلَولَا دَفعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعضَهُم
بِبَعض لَّهُدِّمَت صَوَ ٰمِعُ وَبِیَع وَصَلَوَ ٰات وَمَسَـٰجِدُ یُذكَرُ فِیهَا ٱسمُ
ٱللَّهِ كَثِیرا وَلَیَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن یَنصُرُهُۥۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِیٌّ
عَزِیزٌ" (الحج: ٣٨-٤٠).
لننظر كيف قدم الله جل وعلا الصوامع، وهي مناطق عبادة عامة، والبِيَع
وهي للمسيحيين، وجعل المساجد آخرها، فالمسلم مكلف بالدفاع عن حق المعتقد ومكان
العبادة لغير المسلم قبل المسلم.
الإسلام لا يقبل الانحراف، وأي انحراف مكشوف بالأفعال والسلوك، وتمكينه
ليس تسلطا ولا جبروتا، ويعبر عنه من فهمه، والاهتداء به لا يكون إلا للمتقين "ذلك
الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين".