هي ضمادة صغيرة على جسد مثخن بالجراح، هي
منديل ورق شفاف يحاول كفكفة نهر من الدموع. هكذا بدا لي قرار المحكمة الجنائية
الدولية بإصدار مذكرة اعتقال في حق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير
دفاعه السابق يوآف غالانت.
لقد اهتزت دول كبرى لهذا القرار، ولم تتململ
أمام هذا القتل اليومي للمدنيين منذ أكثر من 400 يوم في قطاع
غزة. وعلى رأس الداعمين
بلا شروط للغطرسة الإسرائيلية، الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد تذرعوا بعملية «طوفان الأقصى» كرد من
المقاومة على محاولة تصفية القضية
الفلسطينية، وعلى توسع الاستيطان واستباحة المسجد
الأقصى، وأوقفوا ساعاتهم عند 7 أكتوبر وسوغوا لحرب ليست ككل الحروب بدعوى الحق في
الدفاع عن النفس. وها نحن اليوم، نصل إلى ما يقارب 150 ألف غزاوي ما بين شهيد وجريح
وأكثر من 10 آلاف مفقود، دون أن يكون هذا الحق في الدفاع عن النفس قد استكمل!!
إنه الانتقام الأعمى. إنها في النهاية جرائم
حرب. وهو ما دفع هذه المحكمة الموقرة إلى اعتبار أن هناك أسبابا منطقية للاعتقاد
بارتكاب إسرائيل لجرائم ضد الإنسانية، واستخدام التجويع كسلاح حرب.
اليوم، ما تزال الآلة الإسرائيلية تضرب بقوة
وتحاصر المدنيين في القطاع، بحيث لم يدخل ولا رغيف خبز ولا حبة دواء منذ 50 يوما،
ودمرت المستشفيات واعتقل عدد كبير من الطواقم الطبية، ولا يعرف أحد بما في ذلك جزء
واسع من الإسرائيليين ما هي أهداف الحرب، اللهم إلا ما تكشف عنه تصريحات الوزيرين
المتطرفين بن غفير وسموتريتش، من أن المطلوب هو ضم الضفة والقطاع بعد إبادة أغلبية
الساكنة، ودفع من بقي على قيد الحياة إلى الشتات.
الغريب في ما يجري، أن وزير الدفاع الذي صدرت
في حقه مذكرة الاعتقال نُحيَ عن منصبه؛ لأنه بصيغة أو بأخرى، تعب من التقتيل وبدا
له أن بلاده قد بالغت. يعني أن متهما دوليا بجرائم حرب يُشفق على مآلات الحرب التي
قادها، وهو ما لم يفعله رئيسه مجرم الحرب بنيامين نتنياهو المتعجرف والمتعطش
للدماء، والفاسد والمتابَع في بلاده بجرائم متعددة.
يستحيل أن يكون قد وقع هذا في بقعة أخرى من
بقاع الأرض، ويظل العالم يتفرج، بل يزود المجرمين ـ بلا انقطاع ـ بآخر أنواع
الأسلحة، وويل لمن يتجرأ على انتقاد تل أبيب؛ لأن في ذلك «معاداة للسامية» وبئسه
من منطق وبئسه من واقع!!
تأسست المحكمة
الجنائية الدولية في 2002، وكانت فلسفتها هي أن تكون قضاء دوليّا للتصدي للجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب
التي لا تستطيع قضاءات الدول أن تتصدى لها، وهي مختلفة عن محكمة العدل الدولية، التي تنظر في النزاعات بين الدول. ولحد الآن، تضم هذه المحكمة 124 من الدول الموقعة
على إعلان روما المنشئ لها، ويقودها 18 قاضيا منتخبا لمدة تسع سنوات من الجمعية
العمومية المكونة من الدول الأعضاء، ولها مدع عام هو اليوم كريم خان. فكيف يمكن
أن نقول؛ إن هذه المحكمة منحازة أو معادية للسامية، كما روج لذلك مناصرو إسرائيل
الدموية؟
لم يسبق لهذه المحكمة التي تعدّ قراراتها
ملزمة للدول الأعضاء فيها، بما في ذلك كل دول الاتحاد الأوروبي، أن أثارت كل هذا
اللغط والتبرم من جزء من دول الغرب وبعض المتصهينين، إلا عندما تعلق الأمر
بإسرائيل. علما أن آخر مذكرة اعتقال أصدرتها كانت في 2023 ضد الرئيس الروسي
فلاديمير بوتين؛ بسبب جرائم الحرب التي ارتكبها في أوكرانيا، وهذا كان مدعاة
للابتهاج في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية غير العضو في هذه المحكمة.
قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرة اعتقال في حق نتنياهو وغالانت كمجرمي حرب في هذه الظروف الدولية، قرار جريء، والقضية ليست ظلما تاريخيا باحتلال فلسطين، ولا هي قضية سياسية أو قومية أو دينية فقط، ولكنها اليوم قضية أكبر، وعلى الخصوص ما يجري في قطاع غزة، فلم يعد هناك مجال للاصطفاف: فإما أن تكون إنسانا، أو تكون خارج هذا التصنيف. ولا عاش مجرمو الحرب وداعموهم.
والغريب، أن هذا الهجوم على المحكمة الجنائية
الدولية لم يقع بعد إصدار قرارها التاريخي ضد نتنياهو وغلانت فقط، ولكن وقع قبل
ذلك، أي منذ حزيران/ يونيو المنصرم، عندما أحال المدعي العام كريم خان مذكرة الاعتقال على
المحكمة، وقد أخرجوا له قضية تحرش جنسي ضد موظفة بذات المحكمة لإركاعه، وفتحت
المحكمة تحقيقا في الموضوع، وصمد كريم خان إلى أن صدر الحكم الذي يَعد اليوم
نتنياهو وغالانت مطلوبين للعدالة الدولية. ومن وقاحة هذه الحكومة الإسرائيلية، أنها
تواصل جبروتها وإجرامها، منتظرة دفعة أقوى بعد تنصيب دونالد ترامب في العشرين من كانون الثاني/ يناير
المقبل، كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية.
ولترامب قصة مع المحكمة الجنائية الدولية في
ولايته السابقة، حيث إنها عندما قررت فتح ملف جرائم الحرب في أفغانستان، أصدر
الرئيس قرارا تنفيذيا لمعاقبة موظفي المحكمة بتجميد أصولهم، ومنعهم من دخول
الولايات المتحدة!
وفي عهدة ترامب، شهدت القضية الفلسطينية أسوأ
أيامها، بحيث تجرأ على ما لم يتجرأ عليه رئيس من قبله، وهو نقل السفارة الأمريكية
للقدس والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان المحتل، وفرض عقوبات على الدول
التي تقدم مساعدات للسلطة الوطنية الفلسطينية (وليس حماس)؛ لأن أصدقاء الرئيس عباس
أبو مازن رفضوا «صفقة القرن» المذلة، التي كان عليهم عمليا أن يتخلوا فيها عن نصف
ما تبقى لهم من أراض إثر اتفاقات أوسلو مقابل 50 مليار دولار.
وقد سبق للرئيس الأمريكي دونالد ترامب عندما
اطلع على خريطة الشرق الأوسط، أن علق بطريقته المعهودة بأن إسرائيل تعيش في مجال
ضيق وعليها أن تتوسع! إنه كلام خطير، ولكن يمكن أن يتحقق بكل بساطة، وإذا ما استمرت
الحكومة الإسرائيلية الحالية في جرائمها وضمت الأراضي الفلسطينية، فالمؤكد أن أول
من سيعترف بسيادتها عليها هو ترامب، ليزيد دفع العالم الذي يقف على شفا حرب عالمية
جديدة خطوة إضافية نحو الجحيم.
ما يقع على المستوى الدولي مخيف جدّا، بوتين
استعمل الصواريخ الباليستية في حربه على أوكرانيا، واعتبر أن كل مزود لكييف
بالسلاح هو معلن للحرب على موسكو، وجرب صواريخ متوسطة المدى يمكن أن تصل إلى كل
العواصم الأوروبية في دقائق، وكوريا الشمالية دفعت 10 آلاف جندي إلى الجبهة في
روسيا، والصين انضمت للحلف، والشرق الأوسط مشتعل، والأدوات الأممية التي أنشئت بعد
الحرب العالمية الثانية للحفاظ على السلم والأمن الدوليين تآكلت. وهناك اليوم جيل
من القادة المندفعين الذين لا يمكن إلا أن نضع أيدينا على قلوبنا ونحن نتابع ما
يصنعونه في الحاضر لمستقبل عالم قد يصبح فعلا بلا خرائط، كما جاء في عنوان رواية
الراحل عبد الرحمن منيف.
قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرة اعتقال في حق نتنياهو وغالانت كمجرمي حرب في هذه الظروف الدولية، قرار جريء، والقضية ليست ظلما تاريخيا باحتلال فلسطين، ولا هي قضية سياسية أو قومية أو دينية فقط، ولكنها اليوم قضية أكبر، وعلى الخصوص ما يجري في قطاع غزة، فلم يعد هناك مجال للاصطفاف: فإما أن تكون إنسانا، أو تكون خارج هذا التصنيف. ولا عاش مجرمو الحرب وداعموهم.
*صحيفة الأيام المغربية