فيما كان الإشكال الأكبر الذي واجه السلطة الجديدة بعد الثورة في كل من
مصر وتونس هو الإشكال الاقتصادي، إضافة إلى قضايا الدولة العميقة والتآمر الخارجي، فإن الموقف في
ليبيا بدا مختلفا من حيث أن المشكلة الاقتصادية هي الأقل إلحاحا، فيما تحضر المشاكلة القبلية والتناقضات السياسية الحادة، ومشكلة الجماعات المسلحة التي ترفض إلقاء السلاح، ويعبر بعضها عن مصالح شخصية وقبلية، بينما يعبر البعض الآخر عن تدخلات خارجية.
أما
تونس، فلا يمكن القول إن التآمر على ثورتها قد توقف بعد تخلي الإسلاميين عن السلطة، وقبولهم بالتوافق على كل صعيد، لكن ما خفف عبء قوى الثورة المضادة عنها (نسبيا)، إنما يتعلق بتدخلات أوروبية لم تكن تريد للتجربة المصرية أن تتكرر فيها، خشية تأثيرها المباشر على المصالح الأوروبية، إذ أن اندلاع العنف في بلد كتونس ستكون له تأثيراته الخطيرة على المنظومة الأوروبية دون شك عبر تدفق المهاجرين والعنف. وعموما تبقى تونس محدودة التأثير في المنظومة العربية، وهي أقل شأنا دون شك من الدول الأخرى التي شهدت ثورات شعبية.
على أن قوى الثورة المضادة التي أغراها النجاح في مصر، وهي الدولة الأكبر والأهم عربيا، وكذلك الحال في اليمن (ذي الثقل أيضا)،والذي ضربت ثورته الرائعة بطريقة تثير القهر، لم تجد (أعني قوى الثورة المضادة) أن عدم وجود حاجة اقتصادية في ليبيا سيحرمها من فرصة التدخل، لاسيما أنها أوتيت سعة من المال، ويمكنها من خلاله التدخل والتأثير بأشكال شتى.
ولا شك أن لليبيا أهميتها الكبيرة، ليس بسبب ثروتهاالكبيرة وحسب، بل أيضا بسبب وضعها الجغرافي الذي يؤثر بشكل كبير على الجوار العربي والإفريقي، وبالتالي فإن إجهاض ثورتها وإعادتها إلى الحظيرة القديمة، لا يمثل استمرارا لحرب
الربيع العربي وحسب، بل يعني أيضا الحيلولة دون وقوعها بيد وضع سياسي يعبر عن ضمير الشعب، ويمكن أن ينضم تبعا لذلك إلى معسكر آخر غير معسكر الثورة المضادة عربيا.
من هنا، لم يتوقف التآمر على ثورتها، وما جرى أمس الجمعة كان مجرد تأكيد لهذا التآمر. وحين يعلن ضابط كبير عن
انقلابه من خلال منبر إعلامي معروف التوجه (ضد الثورات وربيع العرب، وضد الإسلاميين في آن)، حين يحدث ذلك، فهو يؤكد أن ثمة رعاية عربية للانقلاب، من خلال ذات المعسكر الذي طارد ثورة مصر وأجهضها، ودفع ولا زال يدفع من أجل تثبيت الانقلاب.
نكتب فيما أعلن عن فشل الانقلاب، حيث نجح الوضع القائم في استيعابه، لكن ما جرى يثير المخاوف من أن التآمر لن يتوقف، وسيبقى ذلك البلد عرضة للمزيد من المؤامرات، لأن القوم إياهم لا يريدون لأية تجربة أن تنجح، فضلا عن أن يكون نجاحها قد حصل بقوة السلاح، إلى جانب قوة الجماهير، وهم معنيون بإطفاء أي أمل في التغيير، لاسيما أن التخلص من القذافي كان واحدا من أهم ملامح الأمل في ربيع العرب، حيثكنا إزاء دكتاتور لا يدانيه أحد ظلما وغرورا ورعونة، أذلَّ البلاد والعباد، وضيّع الثروات ومارس المغامرات المدمرة.
حيت تستقر ليبيا، وتشرع في التعبير عن هموم أبنائها، فهي ستغدو أكثر تأثيرا في محيطها العربي والإقليمي، وقد كان القذافي مؤثرا، لكنه تأثير سلبي ونشاط لم يكن يصب في صالح الشعب ولا الأمة.
من هنا يمكن القول إن على العقلاء في ليبيا أن يكون متنبهين، وفي أعلى درجات اليقظة من أجل حماية الثورة، وحماية إرادة شعبهم الذي لا يقول عاقل بأنه يحنّ إلى زمن القذافي بأي حال من الأحوال. ومهما قيل عن الأمن الذي لم يتحقق بعد، فإن الموقف لم يصل سوى بقلة منتفعة من الوضع القديم حد الحنين إلى الزمن الماضي.
ما يجري في ليبيا، وما جرى في مصر وليبيا وتونس يؤكد أية أوضاع صعبة تواجه الثورات وفكرة ربيع العرب برمتها، ما يعني أنه (أي الربيع) لم يكن مؤامرة، بل هو تعبير عن ضمير الشعوب، ولكن التآمر عليه كان كبيرا إلى درجة يصعب تصديقها، بخاصة من قبل أقوام يملكون الكثير من فائض المال، ويبدون استعدادا لدفع الكثير منه لإبعاد شبح ذلك الربيع عن فضائهم.