نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تقريرا للصحافي الاقتصادي بيتر غودمان، يقول فيه إن إيران عالقة في أزمة اقتصادية رهيبة، حيث ارتفعت أسعار السلع الضرورية بشكل خيالي، مشيرا إلى أن الاقتصاد ينكمش بشكل سريع، ويشعر الإيرانيون بالانزعاج بشكل متزايد.
ويشير التقرير، الذي ترجمته "عربي21"، إلى أن العقوبات القاسية التي فرضتها إدارة ترامب على إيران أدت إلى منع وصولها إلى أسواق العالم، ما دمر اقتصادها الذي يتراجع الآن بسرعة مخيفة 9.5% في العام، بحسب تقدير صندوق النقد الدولي، وتوقفت صادرات النفط الإيرانية تماما في شهر كانون الأول/ ديسمبر، بحسب "أكسفورد إيكونوميكس"، حيث منعت العقوبات أي مبيعات، مع أن المهربين نقلوا كميات غير معروفة من النفط.
ويعلق غودمان قائلا: "يبدو أن الحالة الاقتصادية البائسة تخفف من استعداد الإيرانيين لتصعيد الأعمال العدائية مع أمريكا، ويعلم زعماؤها بأن الحرب يمكنها أن تجعل حظوظ بلدهم أسوأ، وفي الأشهر الأخيرة برزت مشكلات البطالة والقلق الاقتصادي والفساد بصفتها تهديدا وجوديا للنظام الإيراني المتشدد".
وتلفت الصحيفة إلى أنه قبل أسبوع تم تحويل ذلك الغضب نحو أمريكا، عندما قامت إدارة ترامب باغتيال اللواء قاسم سليماني في 3 كانون الثاني/ يناير، لكن المظاهرات اشتعلت ثانية خلال عطلة نهاية الأسبوع في طهران، واستمرت يوم الاثنين، بعد اعتراف الحكومة "المدهش" -بالرغم من ثلاثة أيام من الإنكار- بمسؤوليتها عن إسقاط الطائرة الأوكرانية.
وينوه التقرير إلى أن المتظاهرين احتجوا على تعتيم النظام بعد إسقاط الطائرة الأوكرانية، الذي أدى إلى مقتل 176 شخصا كانوا على متن الطائرة، مشيرا إلى أن الغضب أيضا عكس مظالم أخرى، من ضيق سبل العيش والقلق المالي والشعور بأن النظام في أفضل الأحوال عاجز تماما أمام مشكلات صعبة.
وتذكر الصحيفة أن التضخم وصل إلى 40%، حيث يواجه المستهلك أسعارا مرتفعة في أثمان الأغذية وغيرها من السلع الأساسية، مشيرة إلى أن هناك أكثر من شخص من كل أربعة شباب إيرانيين دون عمل، خاصة بين خريجي الجامعات، بحسب البنك الدولي.
وبحسب التقرير، فإنه يبدو أن الضربة الصاروخية التي تم توجيهها الأسبوع الماضي للقواعد الأمريكية في العراق مصممة لتمكين قادة النظام من الإعلان عن أنه تم الانتقام لمقتل سليماني، دون إثارة رد عنيف من الرئيس ترامب، مثل غارة جوية.
ويبين الكاتب أن وجود حالة اقتتال مع أقوى جيش في العالم سيجعل حياة الإيرانيين العاديين أكثر صعوبة، وغالبا ما يؤثر على قيمة العملة، ويفاقم التضخم، ما سيزعج ما تبقى من الصناعات القومية، ويؤدي إلى خسارة المزيد من الوظائف، وينشط ضغط الشارع على القيادة.
وتفيد الصحيفة بأن الصراع قد يهدد البنوك المحلية، ما يزيد من معاناة الشركات المحلية، وقد تمت حماية الشركات الإيرانية من الانهيار بقروض كبيرة من البنوك المحلية، مشيرة إلى أن الحكومة تسيطر على حوالي 70% من أصول البنوك، بحسب بحث لنائب مدير صندوق النقد الدولي السابق والزميل في معهد "بيترسون" للدراسات الاقتصادية في واشنطن، عدنان مزارعي، فيما يقدر البرلمان الإيراني بأن نصف القروض البنكية متأخرة السداد.
ويشير التقرير إلى أن "كثيرا من الشركات الإيرانية تعتمد على المواد المستوردة للتصنيع والبيع، من الفولاذ إلى الحبوب، وإن تراجعت عملة إيران بشكل أكبر فإن على تلك الشركات دفع المزيد مقابل تلك البضائع، فإما أن تزيد البنوك من قروضها أو تنهار الشركات، ما سيزيد من البطالة".
ويفيد غودمان بأن البنك المركزي يمول نفقات الحكومة، لملء الثغرات في الميزانية، وللحد من غضب الشعب بسبب تقليص النفقات، ويتطلب ذلك طباعة الأوراق النقدية، ما يزيد من الضغط على قيمتها، لافتا إلى أن قيام حرب قد يؤدي إلى سحب الأثرياء الإيرانيين لأموالهم من البلد، ويهدد بمزيد من التراجع في العملة، مؤديا إلى تضخم خارج تماما عن السيطرة.
وتقول الصحيفة إنه "في المحصلة هذا هو الخيار الصعب الذي يواجه القيادة الإيرانية: يمكنها إبقاء الاقتصاد مستمرا من خلال الاستمرار في إقراض البنوك والشركات، مضيفة إلى مخاطر انهيار بنكي وتضخم مفرط، أو أن تختار التقشف الذي يؤدي إلى معاناة الشعب مباشرة ويهدد بمزيد من المظاهرات في الشارع".
وينقل التقرير عن مزارعي، قوله: "هذا هو الشبح الذي يلقي بظله على الاقتصاد الإيراني.. وليس بالإمكان الحفاظ على الوضع الاقتصادي الحالي".
ويجد الكاتب أنه مع أن هذا الواقع يبدو حادا لشهية إيران للتصعيد، فإن بعض الخبراء يرون أن المتشددين في النظام الإيراني قد يتبنون الاقتتال مع أمريكا وسيلة لتحفيز اقتصاد متهالك.
وتلفت الصحيفة إلى أن إيران قامت في السنوات الأخيرة بصياغة ما يسمى اقتصاد مقاوم، قامت فيه الدولة في الاستثمار فيه بشكل كبير، حيث دعمت الصناعات الاستراتيجية، في الوقت الذي سعت فيه لتعويض الإنتاج المحلي بالبضائع المستوردة.
ويورد التقرير نقلا عن اقتصاديين، قولهم إن تلك الاستراتيجية لم تكن فعالة، وأضافت إلى الضغوط على الميزانية الإيرانية ونظامها البنكي، لكن يبدو أنها حسنت من فرص العمل، مشيرا إلى أن المتشددين يرون أن اقتتالا مع عدو إيران اللدود، أمريكا، فرصة لتوسيع الاقتصاد المقاوم، بالإضافة إلى ثأجيج الغضب القومي المفيد سياسيا.
وينقل غودمان عن المتخصصة في الاقتصاد والسياسة في جامعة أكسفورد، ياسمين ماثر، قولها: "سيكون هناك الأشخاص الذين سيحتجون بأننا لا نستطيع الحفاظ على الوضع الراهن إن لم نذهب للحرب.. فبالنسبة للحكومة الإيرانية فإن العيش في أزمة أمر جيد، لقد كان ذلك دائما أمرا جيدا، لأنك تستطيع دائما إلقاء اللوم في المشكلات الاقتصادية على العقوبات، أو التهديد الأجنبي بالحرب، وفي السنتين الماضيتين بحثت إيران عن المغامرات وسيلة لحرف الانتباه عن المشكلات الاقتصادية".
وتعلق الصحيفة قائلة إنه "بغض النظر عن الطريق الذي ستسير فيه القيادة الإيرانية، فإن الخبراء لا يعتقدون بأن الناحية الاقتصادية ستكون مهمة جدا: فالزعامة الإيرانية تقدم هدفا واحدا على الأهداف كلها، وهو بقاؤها، فإن بدت المواجهة مع قوى خارجية وسيلة جيدة لتقوية قبضتهم على السلطة، فإن القيادة قد تقبل بالألم الاقتصادي بصفته ثمنا ضروريا".
ويورد التقرير نقلا عن نائبة مدير قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في "تشاتام هاوس" في لندن، سنام وكيل، قولها: "المتشددون مستعدون لإفقار الشعب للبقاء في السلطة.. فالجمهورية الإسلامية لا تتخذ قرارات بناء على نتائج اقتصادية بحتة".
ويستدرك الكاتب قائلا إنه "ليس على قيادات إيران إلا النظر إلى المنطقة ليعلموا مخاطر الاقتصاد السيئ للقوى القائمة، ففي الأشهر الأخيرة شهد كل من العراق ولبنان مظاهرات غاضبة حركتها الظروف المعيشية الصعبة، وسط الفساد وسوء استغلال السلطة".
وتنوه الصحيفة إلى أن الوضع الاقتصادي السيئ بدا بأنه يشكل تهديدا للنظام في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، ففي الوقت الذي سعت فيه الحكومة لتأمين التمويل لمساعدة الفقراء والعاطلين، فإنها قامت بإلغاء الدعم عن البنزين، فارتفعت الأسعار بنسبة 200%، ما أثار مظاهرات غاضبة في شوارع المدن الإيرانية، حيث نادى المتظاهرون بالإطاحة بالرئيس حسن روحاني.
وينقل التقرير عن الخبيرة في الشرق الأوسط في "أكسفورد إيكونوميكس" في لندن، مايا سنوسي، قولها: "إن ذلك مؤشر على مدى الضغط الذي يتعرضون له".
ويجد غودمان أنه باغتيال ترامب للواء سليماني فإنه قام بتخفيف ذلك الضغط عن القيادة الإيرانية، مضعفا بذلك قوة عقوباته، برأي الخبراء، مشيرا إلى أن الناس في إيران نظروا للاغتيال على أنه اعتداء على السيادة، ودليل على نوايا أمريكا السيئة تجاه إيران، وأسكتت الشكاوى التي دفعت إلى مظاهرات تشرين الثاني/ نوفمبر، واستبدلت بحالة حزن على رجل نظر إليه على أنه بطل قومي، فبدت البلد التي تعاني من المظلومية تجاه قياداتها الكبار موحدة في غضبها ضد أمريكا.
وتورد الصحيفة عن أستاذ العلاقات الدولية في "لندن سكول أوف إيكونوميكس" فواز جرجس، قوله: "يمثل مقتل سليماني نقطة تحول، ليس فقط من ناحية لفت النظر عن المشكلات المحلية، لكن في جمع الإيرانيين حول علمهم"، وأضاف قائلا إن ترامب أمد الإيرانيين "بالوقت والمساحة لتغيير الخطاب"، فلم يعد هم الإيرانيين الأكبر "السياسات الاقتصادية الفاشلة للنظام الإيراني"، لكن "الاعتداء المتغطرس من الولايات المتحدة على الأمة الإيرانية".
ويستدرك التقرير بأنه تلا ذلك اعتراف الحكومة بالمسؤولية عن سقوط الطائرة الأوكرانية، ووجد الزعماء الإيرانيون أنفسهم في مواجهة مظاهرات غاضبة في الشارع.
وينوه الكاتب إلى أن النظام يسعى لقمع المظاهرات باستخدام شرطة مكافحة الشغب، وتوبيخ المتظاهرين للعودة إلى بيوتهم، مشيرا إلى أنه في حال استمر الغضب الشعبي فإن المتشددين قد يلجأون لتحدي المصالح الأمريكية؛ أملا بأن تجبر المواجهة ترامب للتفاوض على صفقة تلغي العقوبات.
وتقول الصحيفة إن "إيران قد تهدد ناقلات النفط لدى عبورها من مضيق هرمز، الذي يمر منه خمس نفط العالم، وأي تعطيل هناك سيحد من إمدادات النفط العالمية، ويزيد من سعر هذه السلعة الحيوية، وقد يؤدي ذلك إلى قلق في الأسواق العالمية، ويحد من النمو الاقتصادي العالمي، وقد يؤثر ذلك على محاولات ترامب الفوز في الانتخابات الرئاسية لدورة ثانية".
ويشير التقرير إلى أن إيران كان لديها طريق آخر لتخفيف العقوبات: فبموجب الاتفاق النووي الذي تم التوصل اليه عام 2015 خلال رئاسة باراك أوباما، تم إلغاء العقوبات مقابل وعد إيراني بتفكيك أجزاء كبيرة من البرنامج النووي الإيراني، لكن عندما تسلم ترامب الرئاسة، انسحب من الاتفاق وأعاد فرض العقوبات.
ويلفت غودمان إلى أن القيادة الإيرانية حصلت على دعم أوروبي للاستمرار في الاتفاقية النووية، مستغلة الخلافات بين أوروبا وأمريكا، مشيرا إلى أن الأوروبيين لم يكونوا سعداء بالعقوبات الجديدة التي فرضها ترامب، التي قضت على طموحات الشركات الألمانية والفرنسية والإيطالية، التي تطلعت إلى التوسع من خلال فرص التجارة مع إيران.
وتنقل الصحيفة عن خبراء، قولهم إنه مهما وقع لاحقا فإن القيادة الإيرانية تعلم بألم بأن الخروج من تحت العقوبات الأمريكية هو الطريق الوحيد لإنعاش اقتصاد البلد.
وينوه التقرير إلى أنه كان يهدف من الاتفاقية النووية إعطاء القيادة الإيرانية محفزا لعدم الاعتماد على العدوانية وسيلة للتحرر من العقوبات، مشيرا إلى أن انسحاب ترامب من الاتفاقية لم يترك لهم سوى طريقة واحدة للسعي وراء هذا الهدف، وهي المواجهة.
وتختم "نيويورك تايمز" تقريرها بالإشارة إلى قول وكيل: "إنهم يرون التصعيد الوسيلة الوحيدة التي تؤدي إلى طاولة التفاوض.. لا يستطيعون الاستسلام والذهاب لطاولة المفاوضات، ولا يستطيعون التنازل؛ لأن ذلك سيظهر أنهم ضعفاء، وبإثباتهم أن بإمكانهم التصعيد وأنهم لا يخافون فإنهم يحاولون بناء قوة تأثير".
لقراءة النص الأصلي اضغط (هنا)
MEE: هذه دوافع ترامب الحقيقية لاغتيال قاسم سليماني
الغارديان: هل كان قتل سليماني جزءا من خطة مدروسة؟
NYT: قاسم سليماني ألقى بظل طويل على الشرق الأوسط