بدءًا من سبتمبر 1914 تدفقت على مصر آلاف مؤلفة من الجنود من بريطانيا، وجنود الكومنولث، واكتظت الخطوط الحديدية بين الإسكندرية والقاهرة بقطارات تحمل جيوشاً من الرجال والخيول إلى المعسكرات المحيطة بالقاهرة.
أقنع الوصول المفاجئ لآلاف الجنود الأجانب السكان المحليين بأن الموقف البريطاني قوي إلى حد يستحيل تحديه، فطوقت معسكرات التدريب الأسترالية والنيوزيلندية مدينة القاهرة بعشرات الآلاف من الفرسان والمشاة، وأثارت تدريباتهم ومناوراتهم غبار الصحراء، ومن أجل التأثير في أهالي القاهرة، الذين ربما لم يشاهدوا الجنود في المناورات والتدريبات، أمرت السلطات البريطانية الجنود الواصلين حديثاً بالقيام باستعراضات في قلب المدينة، كان التأثير لافتاً جداً.
فقد اكتظ الطريق برجال يعتمرون الطرابيش ونساء محجبات وراقبوا الجنود جميعاً بدقة دون أن يظهر على وجوههم أثر لابتسامة أو بهجة، بل أشارت ملامحهم إلى شعورهم بالذهول والصدمة من الحكم البريطاني.
حي الأزبكية
تحول جنود الإمبراطورية إلى سياح في فترات الإجازة من المعسكرات وقفوا أمام أبي الهول على الخيول والجمال لالتقاط الصور وطاردهم باعة التحف والآثار الفرعونية المزيفة، وسرعان ما تكيفت مهنة السياحة المصرية مع الزبائن الجدد، وأعادت تسمية الفنادق والمطاعم بأسماء البلدات الأسترالية والنيوزيلندية، ومن بين الأماكن الجديدة حانة بالكلوثا وقاعة وايبوكوراو للمطالعة.
وفرت الأحياء المحيطة بحديقة الأزبكية بدورها المتعة للجنود الأجانب في القاهرة، فقد تجمع الضباط في مطاعم الفنادق الفخمة وشرفاتها حول الحديقة، مثل شيبرد الشهير، والبريستول، أما الجنود العاديون فاعتادوا التردد على المقاهي والحانات المنتشرة في الدروب الجانبية الضيقة إلى الشمال من الحديقة، والتي عرفت باسم الحي الأحمر المسدود، أو منطقة المواخير في القاهرة.
ثبت أن الحانات وبيوت الدعارة في الحي الأحمر، المليئة بالجنود الباحثين عن الاستجمام بعيداً عن سأم الحياة في المعسكرات والتدريبات في الصحراء، بيئة قابلة للانفجار، فقد أصبح جنود الإمبراطورية، الذين أضجرهم انتظار إرسالهم للحرب، وأغثتهم المشروبات الكحولية الرديئة التي تباع لهم في الحانات الرخيصة، وملأ صدورهم الحقد على العاهرات اللاتي نقلن إليهم الأمراض الجنسية، يشكلون تهديداً للقانون والنظام كلما طالت مدة إقامتهم في القاهرة.
المفسدون في الأرض
لقد كانت كل رقعة أرض تطأها أقدام جندي بريطاني، تحمل خراباً للقاطنين فوق تلك الأرض، وقد أصبحت منطقة وسط القاهرة ساحة للصدام بين المدنيين والجنود والشرطة.
في عشية المغادرة إلى غاليبولي في أبريل، ومرة أخرى في يوليو من السنة نفسها، هاجم الجنود السكارى مواخير الحي الأحمر، وقدمت أسباب مختلفة لاندلاع العنف: اتهام الجنود العاهرات بالسرقة، أو السعي للانتقام منهن جراء عدوى الأمراض الجنسية، أو حتى الزعم بتعرض جندي ماوري من السكان الأصليين لنيوزيلندا لاعتداء عنصري، وفي المناسبتين، دمر الجنود الممتلكات الشخصية للبغايا، ورموا الملاءات والأثاث من النوافذ، أما الخزن الكبيرة التي يصعب رميها، فقد نقلت إلى سطوح المباني المؤلفة من خمس طبقات، وقذفت من هناك إلى الشارع، بينما كومت الحشود المتجمعة لمشاهدة ما يحدث، وأشعلت النار بالأثاث، وسرعان ما انتشرت الحرائق في المباني المشرفة على الأزقة الضيقة لحي الأزبكية كلها.
أرسلت الشرطة العسكرية البريطانية لاستعادة النظام، وقد واجهت حشداً غوغائياً من الجنود السكارى الغاضبين، وقد رفضوا إطاعة الأوامر، فقذفوا كل شيء في متناولهم على الشرطة، الأباريق وقطع الأثاث، ما دعا الشرطة لإطلاق النار وإسقاط خمسة جنود، وأرسلت عربات المطافئ لإخماد النيران، إلا أن الجنود هاجموا خراطيم المياه وعطلوها، ونظم الجنود أنفسهم لمهاجمة الشرطة العسكرية، وانتهت أحداث شغب أبريل تلك بسقوط خمسة قتلى من الجنود العسكريين، وحريق العديد من المنازل بحي الأزبكية والتي سويت بالأرض وأصبحت رماداً.
ويروي أحمد شفيق باشا في حولياته السياسية أن هؤلاء العساكر المختلفي الألوان والأجناس المتبايني المشارب والمذاهب، كان أكثرهم من عامة شعوبهم، وقد بدت من بعضهم أمور لو وقعت في غير أيام الحرب لأشعلت نيران فتنة كبرى، ويروي حادثة مروعة ارتكبت على أيادي هؤلاء الجنود، فقد كان جماعة منهم قد اتفقوا على دخول بيت من بيوت الدعارة بشارع وجه البركة في النهار، ولم يلبث المارون والجالسون في ذلك الشارع أن رأوا النساء يُلقين من نوافذ أعلى طابق من ذلك البيت إلى الشارع، وبعد مرور بعض من الوقت رأوا الجنود يصبون الزيت على جدران المنزل ويشعلون فيه النيران.
اقرأ أيضا: آرندت وبراندو وروجرز: كيف يرى المثقف الغربي قضية فلسطين
لقد كان هؤلاء العساكر يعاملون المصريين بغلظة واحتكار، وكانوا يسيرون في الشارع آمنين مطمئنين لا يخشون العقاب، فكانوا يعتدون على الباعة الجائلين ويأخذون بضائعهم نهباً بلا ثمن، ولقد حللت تلك الظاهرة مس دورهام إحدى المتطوعات في الحرب العالمية الأولى في خدمة الجنود، في جريدة الديلي نيوز قائلة:
"إني على وفاق مع الرأي القائل إن الاضطرابات الحالية لم تكن إلا نتيجة لازمة لخطئنا تجاه المصريين، ولا جدال أن السلطات المسئولة ملومة كل اللوم في إرسال جنود المستعمرات دون أن يبينوا لهم الطرق التي يجب أن يعاملوا بها الأهالي، فالكثير من الأهالي كان يعاملون من الجنود بجهل فاضح لدرجة أنهم كانوا يتصورون أن مصر بلد إنكليزي، ولقد عاملوا الأهالي بقسوة واحتقار، فلقد رأيت في الكنتين الذي كنت أشتغل فيه خادماً مصرياً من خيرة الخدم انهال عليه جندي بالضرب بقدمه لشيء تافه، ولقد ضرب أحد الجنود رجلاً متعلماً مهذباً من المصريين وسلب منه عصاه الغالية الثمن بلا أدنى سبب، كما أن بعض الجنود السكارى قد نزعوا البراقع عن وجوه السيدات المسلمات، فلا غرو إذا كان المصريون يخافوننا ويحقدون علينا".
تأجيج الغضب في صدور المصريين
في كتابها "مصر في الحرب العالمية الأولى" ترى المؤرخة لطيفة محمد سالم، أن سلوك جنود الإمبراطورية البريطانية في مصر أساء إلى المجتمع وحطم معنوياته في هذه الفترة، وكان أهم ما أحنق المصريين على الإنجليز وأعمالهم، فكان له الأثر الكبير في تفجير أحداث ثورة 1919 العنيفة.
وتورد شهادات هامة عن تلك الفترة في كتابها، كشهادة محمد بهي الدين بركات في مذكراته، أن فريقاً من الجنود الهنود اغتالوا بائعة بلح، واغتصبوها، وتكاثروا عليها حتى ماتت، ونفس الفريق هذا كانوا يأخذون بعض الحوذية قهراً ليحملوا لهم بضائعهم.
وحدث أن قام بعض الجنود في حي بولاق وهم سكارى بكسر زجاج المحلات وأصيب بعض المصريين جراء ذلك، واقتحموا حديقة فواكه في حي العباسية وعاثوا فيها وأخذوا ما لذ لهم وطاب، وعندما طالبهم صاحب الحديقة بالتعويض، ضربوه حتى أفقدوه الوعي.
ومحاضر البوليس المصري في فترة الحرب حافلة بالشهادات على تلك الانتهاكات البريطانية في حق الشعب المصري، كالمحاضر ضد الجنود الذين كانوا يركبون عربات الكارو دون إعطاء السائقين حقوقهم، وإذا طالبوهم بها اعتدوا عليهم.
وفي محاولة من السلطة الاستعمارية للتصدي لتلك الفوضى، أصدرت العديد من اللوحات التي علقتها على أبواب الشوارع تمنع الجنود الإنجليز من الدخول إلى تلك الشوارع وبيوت الدعارة، وتأمر المقاهي بالإغلاق في التاسعة مساءً حتى لا يسهر عليها الجنود.
لقد بلغ عسف هؤلاء الجنود مداه، حتى إن الشرطة المصرية كانت تخشاهم، والشرطة العسكرية البريطانية كانت تتشابك معهم في اشتباكات يسقط فيها ضحايا من الطرفين.
وازاء تلك الحوادث، أصدر القائد العام للجيوش البريطانية قراراً بعزل كل جندي لا يحترم نفسه أو يحافظ على كرامته وبدأ في تنفيذ القرار فعلياً، ما ساعد في لجم الجنود، ولكنه كان قد أورث المجتمع المصري بالفعل القسوة والشدة وانحدار مستوى الأخلاقيات الذي ظهر في ظواهر عديدة عقب الحرب، كظاهرة رجال ريا وسكينة، ولكنه كان له الأثر الإيجابي في شحن غضب المصريين لمواجهة البريطانيين بعنف وقسوة في ثورة 1919.