حكايتان كتبتا في عصور الظلام وأقسى عصور التوحش، وحفرت خيوط أحداثهما بأظافر أبالسة جهنم..
حكايتهما حكاية كل بنت
مصرية من حرائر مصر المعتقلات في
سجون العسكر..
حكاية
الظلم وتلفيق التهم، والتعذيب الجسدي والنفسي.. والعجز عن مواجهة الإخفاء القسري لمئات المصريين..
حكاية قمع الحريات وتكميم الأفواه ووأد الأصوات الحرة، ومحاكم فيها كل شيء إلا العدل..
حكاية الإنسان العربي المقهور في وطنه، المطارد من قبل الشرطة والأجهزة الأمنية..
فتاتان امتحنتهما الأيام بقسوة، وتردد اسماهما مع أخريات كثيرات في وسائل الإعلام وفي التقارير الحقوقية الدولية.
إسراء الطويل المصابة والتي لا تستطيع المشي إلا خطوات بسيطة داخل المنزل بعد أن تعرّضت لإصابة برصاص الشرطة المصرية أثناء قيامها بالتصوير لمظاهرات ذكرى ثورة يناير (كانون الثاني) عام 2014، وأدت لإصابتها بشلل مؤقت، استلزم خضوعها لجلسات علاج طبيعي لأكثر من سنة، وكانت في المرحلة الأولى لمحاولاتها المشي على قدميها حين تم اختطافها.
إسراء اختفت بصحبة زميليها صهيب سعد وعمر محمد، من على كورنيش النيل بالمعادي فيحزيران/ يونيو عام 2015، وكانت تحمل كاميرتها الشخصية، التي لم تفارقها أبدا، بحسب المتعاملين معها.
تردد اسم إسراء في الصحافة، وذكر مرة واحدة بصفتها المتحدثة السابقة باسم حركة "نساء ضد الانقلاب"، وهو ما نفته الحركة في بيان لها، مؤكدة أن الطويل ليست عضوا في الحركة..
لكن اسمها في الصحافة تكرر مرات عديدة بصفتها صحفية، حيث إنها أعدت عدة تقارير فيديو لموقع إلكتروني تابع لإحدى المؤسسات الصحفية الخاصة في عام 2013.
الأم حنان علي، تستحضر الحالة الصحية لابنتها، مرددة: "إسراء تتلقى علاجا طبيعيا مكثفا بشكل يومي، بالإضافة إلى جرعات دوائية يومية أيضا، نظرا لإصابتها في عمودها الفقري قبل نحو عام، ما أثر على قدرتها على المشي".
العجز عن معرفة أخبار إسراء، وعجزها ذاته عن المشي رغم رحلة علاجها التي لم تستكمل بعد، زادا من الاهتمام بقصة الفتاة التي "لا تحمل أي توجه سياسي، وتهوى التصوير بجانب دراستها، ولديها قطة تحبها اسمها وودي"، كما تقول صفحة البحث عنها، التي دشنها أهلها وأصدقاؤها على "فيسبوك"، والهاشتاغ الذي أطلقوه (#إسراء_الطويل_فين؟)، وحظي بانتشار واسع على صفحات التواصل الاجتماعي.
وعرضت إسراء أمام النيابة 12 مرة، لتكمل يومها الثالث بعد المائتين من اختطافها وإخفائها قسريا لأكثر من 18 يوما، حيث لم يستدل على مكانها إلا بالصدفة عندما شاهدتها صديقة لها في سجن القناطر، رغم إنكار الداخلية اختطافها.
وكما أن اعتقالها أثار الاستغراب، فقد أثار الإفراج المفاجئ عنها جدلا على مواقع التواصل في مصر، فـالضغوط الإعلامية التي مارسها الناشطون على مواقع التواصل يبدو أنها آتت أكلها وفق البعض، حيث اعتبر مغردون الإفراج عن إسراء محاولة من النظام لتنفيس الغضب المتراكم على سياسات النظام القمعية ضد قطاعات من الشباب المصري.
إسراء كانت قد واجهت - وفق القضاء المصري- تهما بـ"الانضمام إلى جماعة إرهابية مؤسسة على خلاف أحكام الدستور والقانون، الغرض منها الدعوة إلى تعطيل القوانين ومنع مؤسسات الدولة من ممارسة أعمالها والاعتداء على الحرية الشخصية للمواطنين والإضرار بالوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي، وتتخذ من الإرهاب وسيلة لتنفيذ أغراضها".
هذه التهم لم يسقطها النظام عن إسراء، فقرار الإفراج الصحي عنها تبعه قرار بالإقامة الجبرية تحت إشراف الجهات الأمنية، وأن أي خروج من المنزل لتلقي العلاج يأتي عبر طلب مقدم للجهات الأمنية مسبقا، ما يدفع مغردين لاعتبار الإفراج مناورة من النظام قبيل مظاهرات متوقعة في ذكرى ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011.
وأكد مغردون أن إسراء لم تكن متهمة بالأساس وإنما تم اختطافها وتلفيق التهم لها تباعا، وأن محاولة النظام الظهور بمظهر الرحيم لن تنطلي عليهم، فما زالت السجون تعج بآلاف المعتقلين الذين يعانون أوضاعا صحية خطيرة، كما أن اعتقالهم يتم دون سند قانوني وفق قولهم، وتوعد الشباب النظام المصري بالنضال حتى إخراج كافة المعتقلين السياسيين.
آية حجازي حكاية أخرى من الشباب المستقلين الذين قرروا أن يساعدوا في إيجاد حلول لأزمة "أطفال الشوارع"، ليطلقوا مؤسسة تحت اسم "مؤسسة بلادي" لعمل تطوعي بالكامل من أجل تعليم أطفال الشوارع وإعادة تأهيلهم للتخلص من الإدمان والأزمات النفسية الناتجة عن التحرشات والانتهاكات الجنسية، بواسطة أطباء متخصصين بشكل تطوعي.
أوجع أطفال الشوارع النائمين على أرصفة القاهرة، قلب آية حجازي الفتاة المصرية الأمريكية، الحاصلة على بكالوريوس الحقوق من جامعة "جورج ميسون" الأمريكية، والتي قررت العودة لبلادها بعد ثورة 25 يناير، لتحقيق حلمها بتدشين مشروع تنموي يفيد المجتمع.
المشاهد المأساوية التي ربما باتت لا تلفت أنظار سكان القاهرة، ألهمت آية فكرة مشروعها الإنساني، وبالفعل سارعت وزوجها لإنشاء مؤسسة الجمعية الخيرية "بلادي.. جزيرة الإنسانية"، لمساعدة أطفال الشوارع، وقدمت الفتاة كل الأوراق المطلوبة وحصلت على موافقة من وزارة التضامن الاجتماعي، إلا أن ذلك بدا وكأنه ليس كافيا للقيام بهذا الدور الإنساني في مصر، لتدفع وزوجها ضريبته فيما بعد 540 يوما من الحبس الاحتياطي وما زال عداد "أيام السجن" جاريا.
لم يجد الزوجان مكانا لمؤسستهما، أفضل من ميدان التحرير، ملاذ أطفال الشوارع، الذين وجدوا أمانا في الاحتماء بالثوار في ليل القاهرة أثناء أحداث الثورة المتعاقبة، واستأجرا شقة هناك، وباتت ملتقى أطفال الشوارع، يدخلون لها وقتما يشاءون، ليتعلموا الموسيقى والفنون، ويُعالجوا من آثار الإدمان والتحرش، ويحتموا من واقعهم المرير.
لم يكن دوام الحال ممكنا، ففي أيار/ مايو عام 2014، ألقت قوات الشرطة القبض على أحد أطفال الشوارع في ميدان التحرير أثناء مظاهرة، وتعرض للتعذيب باعتباره أحد المشاركين في الاشتباكات ضد الشرطة، وبعدها تم إلقاء القبض على أكثر من عشرين من أطفال الشوارع، واقتحام مقر المؤسسة والقبض على آية وزوجها محمد حسانين ومجموعة من أصدقائهم المتطوعين واتهامهم بالاتجار في البشر من خلال استغلال الأطفال في تصوير أفلام جنسية، وتشكيل تنظيم سري من أطفال الشوارع لقلب نظام الحكم، واستخدامهم في مؤتمرات وندوات لجمع التبرعات بحجة رعايتهم، واستئجار الأطفال من الجمعية مقابل مبالغ مالية للمشاركة في التظاهرات.
وقضت آية ما يقرب من عام ونصف قيد الحبس الاحتياطي، لتصبح أسباب تأجيل الجلسات محل انتقادات واسعة، فبعد 120 يومًا على سجنها قرر النائب العام السابق إحالة القضية لمحاكمة جنائية (العاجلة)، وبعد 320 يوما من سجنها قررت المحكمة تأجيل القضية لمدة شهرين لحين النظر في أوراق القضية، وبعد 380 يوما على سجنها أجلت المحكمة القضية لشهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، لعدم حضور الضابط المسؤول عن القضية، لتقضي ستة أشهر أخرى من عمرها في الحبس، وأجلت المحكمة القضية لجلسة شباط/ فبراير القادم بسبب وصول عربة الترحيلات المسؤولة عن نقل آية وزملائها للمحكمة متأخرة.
تسلسل زمني، دفع آية حجازي لكتابة رسالة من محبسها، راجية من الجميع: "لا تتركونا هنا في السجون وتنسونا، ولا تجعلونا نفقد الأمل في العدل والإنسانية".
ونشر الناشط وائل غنيم، منشورا على صفحته بموقع "فيسبوك" للتضامن مع آيه حجازي وزملائها المعتقلين لأكثر من 540 يوما دون محاكمة، بتهمة تشكيل تنظيم سري من أطفال الشوارع لقلب نظام الحكم، والاتجار بالبشر واستغلال الأطفال في أعمال جنسية.
حكايتان لكنهما ليستا كل الحكاية.. فثمة نحو 45 ألف مصري اعتقلوا بعد الانقلاب العسكري، ومعهم مئات من حالات الاختفاء القسري لأشخاص يعتقد إما أنهم قتلوا أو أنهم معتقلون في ظروف قاسية ويخضعون للتعذيب الممنهج، دون تهم أو محاكمات.
قصة الاختفاء القسري ببساطة، هي "قصة اختفاء الأشخاص من حياة ذويهم وأحبتهم ومجتمعاتهم عندما يختطفهم المسؤولون من الشارع أو المنزل، ثم ينكرون وجود هؤلاء الأشخاص في عهدتهم أو يرفضون الكشف عن أماكن تواجدهم".. بهذه الكلمات تعرف منظمة العفو الدولية ظاهرة "الإخفاء القسري".
إسراء وآية قصتان تجسدان الظلم في مصر، والنفاق الدولي عند حديثه عن حقوق الإنسان، فهو يفتح أبواب قصوره ويفرش السجاد لنظام عسكري لا يقيم وزنا لحقوق الإنسان مسنودا بآلة إعلامية بلا عقل وبلا ضمير.
أفرجوا عن إسراء، وهذا أمر مفرح، لكنهم لم يفرجوا عن الآخرين، والأهم أنهم لم يفرجوا عن مصر.
دماء الضحايا وأنات وعذابات المعتقلين أقوى بكثير من سياط وسلاسل السجان، وهذا الليل لا بد له من آخر.. إسراء وآية وأخواتهن قمن بدق الباب وتعليق الجرس، ولهن الحرية والكرامة من قبل ومن بعد.