أصدر مركز الزيتونة للدراسات في بيروت كتابا جديدا للباحث
الفلسطيني د. عدنان أبو عامر، يبحث في تعامل دوائر المؤسسة الأمنية ومراكز صنع القرار السياسي والعسكري في
إسرائيل مع الثورات
العربية، التي اندلعت في عام 2011، وأثرها الأمني والعسكري والسياسي على تل أبيب.
ويرى الكتاب، الذي حمل عنوان "منظومة الأمن الإسرائيلي والثورات العربية"، أن ملامح التفكير الأمني الإسرائيلي في معالجته للثورات العربية تمثلت في مجالين مهّمين؛ المجال الأول، هو الفشل الذريع في توقع حدوثها، وقد شمل هذا الفشل الإسرائيلي مراكز الدراسات والأجهزة الأمنية، وتقديرات شعبة الاستخبارات العسكرية. أما المجال الثاني، فهو الارتباك الشديد في تقدير الأوساط الأمنية الإسرائيلية للنتائج المترتبة على هذه الثورات، رغم أن السمة العامة أكثر ميلا للتشاؤم.
تستعين الدراسة بمعظم ما صدر عن المنظومة الأمنية الإسرائيلية ومراكز البحث من دراسات وتقييمات وتقديرات موقف خاصة باللغة العبرية، وترى الدراسة أن الثورات العربية شكلت مفاجأة من العيار الثقيل لما يعرف بـ"مجتمع المخابرات الإسرائيلية"، الذي رسم لنفسه صورة نمطية بأنه يعرف تفاصيل التفاصيل في الدول العربية، ولديه القدرة على التنبؤ بما قد تحمله تطورات أي بلد عربي.
حملت الثورة
المصرية وحدها، وفق الدراسة، ثقلا استخباريا وأمنيا لم تستطع "إسرائيل" إخفاءه، في ضوء المخاوف التي لم تتوقف حتى الآن من تعرض اتفاقية "كامب ديفيد" للخطر، ودخول الحدود مع مصر لقائمة التهديدات الأمنية؛ ولذلك جاء الموقف الإسرائيلي متفقا عليه في رفض الثورة.
في المرتبة الثانية من الاهتمام الأمني الإسرائيلي جاءت الثورة السورية، على اعتبار أن العلاقة العلنية التي حكمت تل أبيب ودمشق كانت الحرب، فيما احتفظ الطرفان بهدوء شبه كامل على الحدود المشتركة؛ ولذلك تباينت التقييمات الإسرائيلية في رؤيتها للثورة السورية في ضوء مفاضلاتها الدقيقة.
يذكر د. أبو عامر أن إسرائيل لم تبذل جهودا حثيثة لإخفاء تدخلها في الثورات العربية، سواء بصورة مباشرة من خلال التغطية الإعلامية المنحازة لطرف دون آخر، أو غير مباشرة عبر ضغوطها على الثورات العربية عبر التنسيق الكامل مع المنظومة الغربية، وهو ما يفسر على سبيل المثال ترحيبها بالإطاحة بالرئيس المنتخب محمد مرسي، وتريثها في الموافقة على الإطاحة السريعة بالنظام السوري.
وترى الدراسة أن التفاعل الأمني الإسرائيلي مع الثورات العربية تمثل في ثلاثة أشكال، وهي رصد الأجهزة الأمنية للحراك العربي في شوارع العواصم المحيطة، والإجراءات الأمنية المتلاحقة لوقف النتائج السلبية لهذه الثورات على الواقع الإسرائيلي، والتنسيق الأمني الذي بادرت إليه المنظومة الإسرائيلية مع الأنظمة العربية وحلفائها حول العالم، لكبح جماح المد الثوري العربي.
ويعزو الباحث تخصيص دراسته للتقييم الأمني الإسرائيلي إلى أن "إسرائيل" من أهم الدول التي راقبت الأحداث في المنطقة العربية بعين الترقب والقلق، وسارعت إلى دراسة السيناريوهات المستقبلية لشكل علاقاتها في مرحلة ما بعد التغيرات مع محيطها العربي، خصوصا مع الدول التي ترتبط معها بعلاقات دبلوماسية ومعاهدات سلام.
وقد تمثلت النظرة الإسرائيلية، وفق الكتاب، في أن الشرق الأوسط دخل عام 2011 في مسار ينذر بتغيير بمقياس تاريخي يساوي في أهميته نهضة العرب في نهاية القرن التاسع عشر، مع نشوء الدول القومية العربية بعد الحرب العالمية الأولى، ورسم حدودها باتفاق بين فرنسا وبريطانيا، والتغيير في منتصف القرن العشرين، حينما طرُد الاستعمار الغربي نهائيا.
ينقل الكتاب عن بعض المحافل القريبة من دوائر صنع القرار الإسرائيلي، أن هناك سيناريوهات يمكن اللجوء إليها للتعامل مع التبعات المتوقعة نتيجة التطورات العربية في البلدان المحيطة.
فعلى صعيد مصر، ومنذ ثلاثين عاما، تؤمن "إسرائيل" بأن أي توتر معها لن يؤدي لاندلاع مواجهة عسكرية حقيقية، مهما كانت الأحداث التي تشهدها ساحات أخرى، ولهذا كان بإمكانها تركيز قواتها باتجاه الجبهات الأخرى، لكن من غير المؤكد أن يستمر هذا الأمر في الفترة القادمة، ما يتطلب توفير المزيد من الموارد لتمويل احتياجات "إسرائيل" العسكرية والأمنية، حتى يكون بإمكان الجيش العمل على عدة جبهات في الوقت ذاته. ويتوقع هذا السيناريو أن تشهد المرحلة القادمة تراجعا لسيطرة الأمن المصري على الحدود، وهذا يعني إمكانية حدوث عمليات انطلاقا من الأراضي المصرية.
لكن دوائر الأمن الإسرائيلي ترى أن انقلاب السيسي على الرئيس مرسي منح "إسرائيل" استراحة محارب على الجبهة المصرية، ومنحها فرصة التفرغ لجبهات أخرى، في ضوء الحرب التي تشنها مصر على سيناء والجماعات المسلحة هناك.
أما فيما يتعلق بالأردن، فتجزم محافل مقربة من أروقة صنع القرار الإسرائيلي أن قوة النظام الأردني تراجعت بصورة ليست كبيرة، وأصبح للمرة الأولى نقاش حول صلاحيات الملك، وضرورة توزيعها بين البرلمان والقصر.
في الساحة الفلسطينية، ورغم الهدوء النسبي الذي تراه أجهزة الأمن الإسرائيلية، إلا أنها تشير لوجود تحركات تحت الأرض تؤكد وجود خطر كبير من انتقال موجة التطورات العربية إلى الساحة الفلسطينية، داعية القيادة السياسية في تل أبيب للقيام بخطوات وقائية لمنع اندلاع انتفاضة جديدة، كما أن الأحداث التي تشهدها المنطقة تؤثر على اعتبارات "إسرائيل" ومخططاتها العسكرية تجاه الفلسطينيين.
ترى دوائر الأمن الإسرائيلي أن الحرب الأخيرة على غزة شكلت محطة اختبار "إيجابي" أمام "إسرائيل"، بعد ظهور الثورات المضادة في بعض البلدان العربية، لا سيما مصر، ووقوفها موقفا شجع الجيش الإسرائيلي على الاستمرار في المذبحة الحاصلة ضد الفلسطينيين لمدة تزيد عن 50 يوما.
أما حول الوضع في سوريا، فإن القلق الإسرائيلي يتزايد في العام الخامس للثورة السورية من إمكانية نجاح "القوى السنية" في إسقاط الأقلية العلوية عن الحكم، وتشكل نظام جديد قد لا يلتزم بالاتفاقيات السابقة.
يرى الكتاب أن المنظومة الأمنية الإسرائيلية في حالة مراجعة للذات، وإعادة رسم تقييماتها لتبعات الثورات العربية، بعد نجاح بعضها، وإخفاق أخرى بفعل الثورات المضادة، وأن الأيادي الإسرائيلية لم تكن بعيدة عن التخطيط والدعم لإجهاض الثورات العربية.
تفضل "إسرائيل" التعامل بحذر مع التطورات الحالية في المنطقة، عبر عدم المبادرة لخطوات خطيرة، مع تفضيل خيار الانتظار ومراقبة ما سيحدث، في ضوء عدم تشكل الصورة النهائية للصورة الإقليمية، التي تتوقع "إسرائيل" أن تكون لها تأثيرات كبيرة عند اكتمال تشكلها.
يخلص الكتاب إلى أن دراسة واقع التطورات العربية، وأثرها على المنظومة الأمنية الإسرائيلية، يتعلق بأخذ "كرة الثلج" هذه، ورؤيتها تتعاظم رويدا رويدا، بحيث إذا ما تغيرت الأنظمة العربية المقربة من الغرب، وبالضرورة "إسرائيل"، فإن الموقف سيتغير على نحو جذري، ولن يكون بوسع تلك الأنظمة تجاهل مشاعر جماهيرها فيما يتصل بالعلاقة مع تل أبيب، وحتى الدول التي قد لا تتغير أنظمتها بالكامل لاعتبارات معينة، فإنها ستضطر لتغيير موقفها إيجابيا من القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي.